الخميس 22 مايو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

إجابات فى الهواء

تقابل فى طريق البحث أحيانا عقلا يدهشك بعمق تأتى الدهشة مع هذا العقل الذى التقيته مصادفة أما من تلاقى الرؤى فى عدد من النقاط أو لاتساع الهوة بين وجهتى النظر تجاه مفردات العالم المحيط بنا.. أعتقد أن الدهشة عندى سببها التلاقى 



 

ألكسندر دوجين فيلسوف ومفكر روسى معاصر يلقبونه فى روسيا بدماغ فيلاديميربوتين، فقد تأثر بأفكاره القيصر حول دور روسيا فى محيطها والعالم وموقفها من الغرب

 

يقف دوجين على ضفة العداء من العولمة والليبرالية ونسختها الجديدة ويرى أنها بلاء البشرية وكل ما يحدث من خراب سببه تفرد العولمة والليبرالية ونسخها بالساحة العالمية.   يرى ألكسندر دوجين فى نظريته السياسية الرابعة بعد فشل الشيوعية والفاشية والليبرالية أن العودة إلى الهوية وتلاقى الثقافات المتفردة لكل أمة هو ما يصنع التناغم بين الأمم. تمتلك الهوية الروسية الأصيلة القدرة إلى أن تصبح الأوراسية فتتلاقى روسيا مع كل الشعوب الناطقة بالروسية ثم تمتد للتحالف مع الشطر الآسيوى من العالم متعدد الثقافات كالصين والهند مع مزيد من جذب ثقافات أخرى متنوعة وقد تحقق هذا على أرض الواقع فى تحالف ال «بريكس» الذى يضم روسيا والصين والهند وجنوب إفريقيا والبرازيل.  تهدف هذه التحالفات إلى خلق عالم متعدد الأقطاب يتحرر من الهيمنة الغربية خاصة الأمريكية منها وأحاديتها فى إدارة العالم، يعطينا هذا التحقق إشارتين مهمتين أولهما أن فى البدء كانت الفكرة والنظرية التى يصيغها الفيلسوف وهذا الفيلسوف لا يصيغ وينظر من أجل شغل وقت فراغه بل هدفه تحريك أمته إلى الأمام. 

 

تأتى الإشارة الثانية عندما تتلاقى النظرية مع إرادة سياسية يمتلكها زعيم للأمة يؤمن بقدرها وقدرتها على أخذ مكانها الذى تستحقه وجديرة به بين الأمم فتدور ماكينات التطبيق العملاقة وترتقى مكانة الأمة كما حدث مع روسيا عندما التقت النظرية بالتطبيق.

 

يطرح دوجين رؤيته حول طبيعة الصراع الذى تخوضه الأمة فى مصطلح «النوماخيا» ويعنى «حرب العقول» فكل صراع حضارى هو معارك بين أفكار متضادة والمنتصر من تسود وتسيطر أفكاره ثم تقود، فبناء حضارة ما قائم على أفكار وأى مشروع إصلاحى وقوده الأفكار.

 

نلاحظ منذ تولى فلاديمير بوتين الحكم وبداية مشروعه الضخم فى إحياء الأمة الروسية وأن هذا الإحياء بوصلته عدد من الرؤى تطرحها على المجتمع الدولى قبل توسعها المؤثر الذى أصبح حقيقة واقعة الآن خاصة فى الشرق الأوسط.

 

هذه الرؤى قد يتم الاختلاف أو الاتفاق معها لكن ما يهمنا أن مشروع الإحياء قائم على أفكاركما يرى دوجين وليس مجرد استخدام للقوة فقط وعندما تعادل مصطلح «النوماخيا» تجده مشابها لمصطلح الأمريكى جوزيف ناى «القوة الناعمة».

 

يبقى عند دوجين نقطة مهمة مرتبطة بالظرف الزمنى للإحياء والتطبيق فهو ضد التلكؤ ويرى أن الفرصة الملائمة تصبح ملائمة عندما نشرع فى العمل.

 

أجرى ألكسندر دوجين حوارا تليفزيونيا فى أواخر العام الماضى مع فضائية «الميادين» وعندما سأل عن رأيه فى الرئيس بوتين أشاد به وفى قدرته على قيادة روسيا لكنه اختلف معه فى أمر معين مرتبط   ببطء بوتين فى التخلص من طبقة عازلة تفصل ما بين بوتين وشرائح المجتمع وهذه الطبقة لا تستطيع تحقيق طموح روسيا وبوتين داخليا وخارجيا بسبب خضوعها لليبرالية ولا تجعله يبنى مؤسسات فكرية واستراتيجية قوية ترسخ من نظام الحكم ويبدو أنه قصد الطبقة التى تشكلت فى وقت بوريس يلسين الذى سبق بوتين فى حكم روسيا وكان تابعا للهيمنة الغربية الأمريكية بشكل سافر على حساب المصالح الروسية.

 

نترك ألكسندر دوجين مرحليا ويمكن أن نناقش مزيدا من أفكاره فى وقت لاحق فالرؤية التى طرحها دوجين لروسيا يمكن الاستنارة بها كإطارعام عند الإجابة على أربعة أسئلة خاصة بمصر. 

 

طرحت الأسئلة الأربعة وتركتها معلقة من الأسبوع الماضى فى نهاية مقال «استخبارات التسويق» وترطبت تحديدا بما أطلق عليه دوجين «حرب العقول» ووفق المصطلح الأمريكى «القوة الناعمة»  وجاءت الأسئلة التى سنبحث لها عن إجابات كالآتى:

 

ـ هل صناع القوة الناعمة مدركون للحظة التحول الفارقة التى يمر بها العالم ومصرومجتمعها فى قلب هذه اللحظة بحكم تاريخها ومحوريتها وثقلها؟

 

ـ هل قادرون لو أدركوا على تعظيم النتائج الأولية لتصبح تحولا مجتمعيا كاملا تجاه التنوير والتخلص من الظلامية؟

 

ـ هل استهلك الصناع الزخم الشعبى لثورة يونيو بإسراف وعدم حكمة طوال سبع سنوات فى إنتاج ما تصوروه قوة ناعمة فوجدوه أمام العواصف الظلامية قوة واهمة؟

 

ـ لماذا حتى اللحظة الآنية لا نطبق قاعدة الهجوم خير وسيلة للدفاع وندور فى دوائر رد الفعل وتتعقبنا أزمات الدعاية السوداء التى تحركها ماكينات الدعاية الفاشية رغم كل ما حققناه من إنجازات؟

 

ـ هل أمامنا فرصة لاستعادة زمام المبادرة وذكرى يونيو تدق الأبواب أم أننا وصلنا إلى محطة الفرصة الأخيرة هذه المحطة التى لا تعطى رحابة الاختيارات؟

 

عند الإجابة على السؤال الأول القائم على فكرة الإدراك عند هؤلاء الصناع سنجد بوضوح أن هذا الإدراك مفقود لأن أوليات هذا الإدراك القدرة على بناء مشروع مستمد من حدث فارق وتحولى فى تاريخ الأمة المصرية وهو ثورة يونيو، فهذه الثورة لم تكن حدثا محليا قاصرا فى تدعاياته على الداخل المصرى، بل هى ثورة لها امتدادها فى محيط مصر العربى والإقليمى والدولى ولا نبالغ إذ قلنا إن مع انطلاق الثورة تحول الامتداد إلى زلزال عنيف هز كل المشاريع التى تريد السيطرة على مقدرات هذه المنطقة.

 

ما يثبت هذا التأثير والامتداد لمن فقد الإدراك حجم الحشد العدائى تجاه الزخم الذى ولدته يونيو لكن أين هو المشروع الفكرى الذى يأطر هذا الزخم ويحوله إلى تطبيقات سياسية واجتماعية وثقافية يتم تنفيذها فى الداخل والخارج؟ 

 

بالنسبة للداخل بعد سبع سنوات مازال الصناع يدورون فى بدائية إثبات ظلامية الفكر الظلامى للفاشيست رغم أن البديهية الأولى تقول إن الملايين التى تحركت فى يونيو أدركت من الوهلة الأولى هذه الظلامية ولهذا تحركت ولا تريد الإثباتات البدائية التى يقدمها الصناع بل تريد صياغة المشروع الجامع لرفضها الظلامية ثم تجد هذا المشروع يطبق على أرض الواقع سياسيا واجتماعيا وثقافيا.

 

نتطلع للخارج نجد تقصيرا غير قليل فى الاتصال بالقوى والتيارات التى تناهض الفاشيست ومشروعهم والأمر لا يحتاج لبحث وتنقيب من الصناع للعثورعليها لأنها متواجدة وظاهرة للجميع فى محيطنا العربى والإقليمى والدولى وأعطت يونيو الدفعة الكبرى والمؤثرة لهذه القوى والتيارات لتبدأ نضالها بعد أن وجدت أمة بكاملها تثور ضد الظلام والظلامين.

 

قد يرى البعض عند نقطة الاتصال أننا نحمل الصناع أمرا فوق طاقتهم لأن الاتصال يرتبط بالعمل السياسى والحقيقة أن الحلقة الأخيرة فى الاتصال بهذه القوى والتيارات هى العمل السياسى لأنه قد يشكل عبأ على هذه القوى والتيارات فى محيطها.. لكن هناك الاتصال الثقافى والاجتماعى والإعلامى وهو عمل الصناع بقواهم الناعمة والمدنية.

 

لا يعتبر الحرص على هذا الاتصال ترفا أو تدخلا فى أمور لا تعنينا بل هو قلب المشروع الذى من المفترض أن نصيغه فى مواجهة لحظة التحول التى يمر بها العالم فهناك فارق كبيرفى الحسابات والمكاسب بين أن يتعامل العالم فى لحظته التاريخية تلك مع مصر كدولة فقط أو أن يتعامل مع مصر كأمة ومركز لمشروع حضارى ممتد ومؤثر فى محيطها العربى والإقليمى والدولى.

 

لم تعد المساحة تحتمل الإجابة على بقية الأسئلة فلنتركها للأسبوع القادم.. لكن على الأقل الإجابة الأولى تسربت من حصار السؤال إلى الهواء.