الأربعاء 15 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

ورسالة لم أبعثها إليه

اليوم: تغير بعد غياب



 

بهجت. سواء التقينا أو تهافتنا. كان بهجت يصنع اليوم.

 

صديق:

 

هل عاد لهذه الحروف عندما تجمع نفس المعنى؟

 

لماذا أكتب الآن إذن. لا أحد يقرأ بعيون بهجت التى كلّت وتعبت.

 

 

لم يكن بالنسبة لى رسام كاريكاتير أو صانع كتب أطفال أو نحاتا مثل ما كان فى صباه ـ رغم أنه كل هؤلاء بذائقة خاصة ومتفردة كان بالنسبة لى كيانا من المشاعر والأحاسيس يمور ويغلى أحيانا، وأحيانا يشف ويصفو كنسيم عصر صيف فى القاهرة القديمة، فى سنوات غابرة، سنوات الجاهلية شربنا أنا وبهجت كثيرا، كان الغريب المشترك، هو كأننا كنا نبحث عن حل ما فى قاع الزجاجة احتجاجا أو رفضا أو هروبا سمِّه ما شئت، لكنه لم يكن أبدا مع بهجت فسادا ربما كان عذابا، وعلى الرغم من أنهم يقولون إن الشراب يظهر ما فى النفس من شرور، فلم أر فى نفس بهجت شرا واحدا، أو نقيصة مشينة يقول لى.

 

رحلة بهجت عثمان

 

أكثر الأخوة العرب الذين عرفتهم فى حياتى عرفتهم عن طريق بهجت بداية من فيروز حتى صديقنا المصرى اللبنانى الأصيل: محمد بكرى،  من المغرب إلى اليمن، من بنى نيس ومنيف إلى سلمان الفهد، وطلال سلمان.. كلهم رغم البعد والاختلاف كانوا دائما حاضرين عند بهجت، رغم الحواجز والحدود، الكل مدين لبهجت بلحظات نادرة من العطاء والتواصل الإنسانى لا يعرفها إلا هو. من أغرب التجارب التى مررت بها مع بهجت هى تجربة «التنظيم الطليعى» فقد جمعتنا رفقة لفترة هناك كان بهجت يسميه «الكعك» نسبة إلى علب «الكحك» التى صاروا يوزعونها علينا فى المناسبات كانت محنة، كشفت لنا أن فى واقعنا أقواما من الانتهازية والوصولية، والمصالح المادية المجردة ما شاب له الفؤاد وشعر الرأس ظل بهجت يتابع عن قرب ذلك المسلسل الغريب المضحك يراقبه وهو يتصاعد حتى يسيطر على كل شىء.

 

فى العمل كما فى الحياة أراد بهجت أن يصنع لنفسه مفردات جميلة يتعامل معها، بدلا عن كل المطروح فى الأسواق، فقضى أغلب سنواته الأخيرة يصنع للأطفال حلما خاص، أقام فى خياله «جالية للمصريين فى مصر» تضم الجالية كل الغرباء الذين لا يسيرون فى تيار الفساد الأساسى الذى يسرى إلى الذوق والأخلاق.

 

وأزعم ـ أيضا ـ أن جالية بهجت شهدت تدافعا على العضوية توقف بهجت عن رسم الكاريكاتير ـ كما كان يقول ـ عندما صار الواقع أكثر إضحاكا وغرابة.

 

قرر أن «الديكتاتورية» هى أصل البلاء فأخذ يقيم جمهورية «بهجاتيا» العليا التى هو حاكمها المطلق الأوحد وصاحب كل الألقاب والمحاسن والمعجزات والشرور.

 

الحرية هى محرك بهجت الأساسى،  هى محور روحه وصلب حياته، إذا لم يستطع الإنسان أن يعيش حريته فعلى من يصب غضبه إلا على نفسه، وعلى أقرب الناس إليه حبه الشخصى والخاص للأستاذ نجيب محفوظ، وإعجابه المخصوص بعدد من أعماله ظاهرة تكشف عن قراءة حقيقية حية، حصلها لنفسه بالقراءة المستمرة فى الرواية والفن لا أستطيع أن أنسى الكتاب الذى قدمه لى بهجت بعنوان: «مديح الظل» يحكى تجربة دخول الكهرباء إلى قرى ومدن اليابان، كان يتحدث عن الصفحات وعما فيها، فترى كم هى صافية روح هذا الكائن ورحبة.

 

بهجت: أمازلت تضحك لو قلت لك «كم كنت أبغى أن تقول رثائى» أو أجمل التاريخ كان غدا.. أو «من أجل بعد بعد غدٍ أفضل». أما زلت تضحك؟

 

غلبتنى يا بهجت مرة أخرى.. فها نحن لم نتحدث إلا عنك؟

 

رب عوضنا فى ولديه هشام ووليد خيرا منه.

 

وأرع تلاميذه ومحبيه الذين لا حضن لهم. أمنحه ـ هو ـ بعضا من الرضا عن النفس الذى ظل يبحث عنه طوال عمره. رب أدخله بسلام إلى محبتك. عندما أدخل فى أنفاقى «أنت المنتحر الحى» والغريب أننا كنا نضحك.

 

بعد رحلة طويلة مع الجرائد والمجلات ومع الفنون التى يعرفها، محاولا أن يكسب عيشه بشرف واحترام، محاولا فى الداخل أو الخارج أو فى بطن الحوت، لم يجد بهجت بدًا من أن يقيم من نفسه لنفسه، مؤسسة خاصة معارضة، خارج التقسيمة، وأن يصنع من نفسه بديلا فنيا حيا للجرائد والمجلات التى ظلت تصدر تحت الرقابة ووفقا للتعليمات.

 

وطنى،  مصرى،  عربى،  متطرف، متطهر، مزايد، لا يرى سوى «أبيض وأسود»، رغم عشقه وفهمه للألوان، صنع لنفسه نشرة أخبار خاصة به، وتعليق يومى على ما يذاع فى الراديو والتليفزيون، وأزعم أن نشرته جيدة، واسعة الانتشار.

 

رغم مرض السكر المتوحش الذى سكن جسده مبكرا، فإن معجزة بهجت كانت قدر النشاط والحيوية التى ظل متحفظا بها حتى النهاية، حضوره وأداؤه الشخصى الفريد، الذى ينبع من رغبة أصيلة فى إسعاد الآخرين، وتوصيل البهجة إليهم.

 

يصيح بهجت فى بيتنا، بعد الفجر بقليل.. «عم بكير.. بياع الفطير» حاملا للأولاد ولنا، فطيرا ساخنا ـ محلى بالسكر.

 

من فى الحياة سيمنحنا هذه البهجة مرة أخرى؟ أحسب أن رحلة بهجت كانت محاولة لأن يعود طفلا، صفحته ناصعة البياض.

 

من أهم الأشياء فى رحلة بهجت هو زواجه المبكر من بدر حمادة: الفنانة صانعة العرائس التى صنعت مع ناجى شاكر أجمل أيام مسرح العرائس المصرى،  صممت بدر ـ أيضا ـ حياة بهجت وبيته، وأولاده، هشام ووليد اللذين صنعا على عيون الفن والمحبة، فى بيت من أجمل البيوت المصرية التى دخلتها.

 

راقبت جسده يزداد نحولا، وروحه تزداد احتراقا لكى يفعل شيئا، لكنه كان دائما واحة، لم يكن كل هذا أبدا سرابا.

 

تتلمذ بهجت على يد الأستاذ أحمد بهاء الدين، ليس فى السياسة بقدر ما فى الالتزام، والأخلاق والذوق كان يكن لبهاء قدرا كبيرا من الإكبار والتنزيه وعاش معه الأستاذ بهاء قدر المستطاع محنته الأخيرة، ومن كلمات الأستاذ بهاء التى بقيت مع بهجت «كفاية دوشة بقه»! هل كان يقصد كل شىء؟!