د سميح شعلان
جبر الخواطر
فرق حملك على حلمك، الحلم الطيب بيشيل أحمال، والضهر المكسور من شيل الهم، يحتاج لطبيب، يداوى الكسر ويخلى البنى آدم واقف على رجليه.. والناس المقهورة، كل أوجاعها بتهون، إلا وجع القلب وكسرة نفس الغلبان، ودموع التايه والحيران، والعشم المفقود، والخل الغايب، وقسوة الحب المحدود..»
كنا فى بلاد مبصرة، وفى رحاب قلوب تعشق المودة فى ظل الخير الممدود إلى آفاق بغير نهاية. إنها بلادى التى كان يجيد أهلها جبر الخواطر، ويزرعون الظل فى كل الأرجاء. استعانت القريحة الشعبية المصرية بمصطلحات معبرة، وتعبيرات دالة تكشف من خلالها عن قدرة هذا الشعب على فهم واستيعاب حاجات الناس الملحة.
«لما الكف تطبطب على الضهر المكسور، ولما العين بتشوف القلب المقهور.. ولما الغلبان يسند على ضهر يستحمل غلبه، تبقى الدنيا بخير»..
« رجعت مجبورة الخاطر ومكسفتهاش»، يعنى إنها استجابت لطلبها، وأعطتها ما أرادت، أو وافقت على ما تيسر به أمورها، وتسير به حياتها. لعل فى رجعتها تلك وعلى هذه الحالة من الرضا ما يرضيها، ويرضى من حولها، ومن يهتم بأمر رضاها.
وجبر الخاطر قد يكون اعتذارًا عن خطأ غير مقصود، لصب أذى صدام قد يحدث وخصام قد يتم. إنه مطلب كل الناس من رب الكون القادر والعارف بحاجات الناس ومطالبهم ومؤرقات حياتهم، هو الذى يجبر بخاطر المريض فيشفيه، والفقير فيعطيه، والغنى فيصد عنه الأذى ويمنع عنه الشرور ويعطيه مزيدا من العطاء.
كنت أسمع أمى تهمس فى أذن أختى الكبيرة حين تهم بعدم الاستجابة لإحسان، أو تشرع فى رد طلب لصاحبته، فتقول لها «متكسريش بخاطرها، وإديها اللى هى عايزاه، اللى ميجبرش خاطر الناس الغلابة، ربنا ميجبرش خاطره، ومحدش فى الدنيا بحالها مش محتاج إن ربنا يجبر بخاطره».. كانت هذه الكلمات الناصحة، سهامًا طيبة إلى القلوب التى كادت أن تنغلق، والرؤية التى فى سبيلها إلى إنكار عطايا الله، فتتوقف عن فعل الخير وتتراجع عن مد اليد بعطايا الرحمن.
لعل الثقافة الشعبية المصرية عندما استندت فى تصوراتها ومعارفها ومفاهيمها، على القواعد الأخلاقية التى استوثقت من صحتها؛ من خلال تجربتها مع الحياة، واستضاءت بموقف الأديان السماوية من العلاقات وكيف تكون، والتصرفات وما يجب أن تنطلق عليها. إن الثقافة الشعبية بذلك تتجه وبقوة إلى التحذير بل والتحريم، لتضمن التزام كل الناس بجبر الخواطر.
إنها فلسفة الفهم، واختيارات الوعى بالتجربة الإنسانية، ويقظة عقل الضمير.. وضمير العقل الجمعى المستنير..
حين يكون الخاطر مجبورا ترضى النفس، وتتراجع النزاعات، وتتلاقى القلوب حول سر أسرار التقارب بين الناس.
من هذا المنطق اختارت الجماعة الشعبية المصرية ما يصد أذى هيمنة الغرور، ويمنع سطوة التبجح فى حق الغلبان المشروع؛ حتى يقبل على الحياة ويقبلها، فى ظل رضوان الله على الذين يجبرون بخاطره ويعززون رضاه وقناعته بإن الدنيا بخير.
«وكانت الحياة صافية، وكان قلبنا طيبًا.. وكان ضلنا ممدودًا، وكان دمعنا قريبًا.. وكنا مهما كنا بعاد ما بينا ميعاد بيجمعنا.. نلاقى حد بيشوفنا، ولما نتوجع من بعض، نلاقى حد يسمعنا».