التأثير الإقتصادى لإنتشار وباء «كورونا»

جمال طه
العالم أصلًا كان يتجه نحو أزمة اقتصادية قبل انتشار وباء «كورونا»، إرهاصاتها بدأت تظهر على شكل تباطؤ اقتصادى، فى كبريات الاقتصاديات العالمية؛ خاصة الصين والولايات المتحدة، وترافقت مع حرب تجارية محمومة بين الدولتين، قادها ترامب، متعهّدًا بالانتصار فيها، بالتزامن مع نزعة عالمية نحو اعتماد سياسات حمائية جديدة للمنتجات الوطنية، خروجًا عن مقتضيات العولمة والأسواق المفتوحة.
الركود والانكماش
معدل النمو فى الاقتصاد العالمى تراجع لنحو 3 % عام 2019، بعد 3.7 % عام 2018، و3.8 % عام 2017، ويتوقع انخفاضه إلى 2.5 % هذا العام 2020.. الانكماش الاقتصادى والحواجز التجارية أديا إلى تراجع معدلات نمو التجارة الدولية، لتصل إلى 1 % خلال النصف الأول من 2019، وهو الأبطأ منذ 2012، وذلك وفق تقديرات صندوق النقد الدولى لآفاق الاقتصاد العالمى نهاية 2019.. الرابطة الاقتصادية لرواد الأعمال الأمريكيين توقّعت أيضًا دخول الاقتصاد الأمريكى، أكبر اقتصاديات الكون، فى عامين من الركود، فبعد أن وصلت نسبة النمو 2019 إلى 2.3 %، من المتوقع تراجعها 2020 بنسبة 2 % وعام 2021 بنسبة 1.7 %.. مؤشرات الاقتصاد الأوروبى انخفضت كسوقٍ استهلاكية كبرى، يعتمد عليها الطلب العالمى جزئيًا.. مديونية العالم قفزت إلى 255 تريليون دولار نهاية 2019، بما يزيد على نسبة 3 أضعاف الناتج المحلى العالمى، وهذه المديونية تشمل مديونية الحكومات والشركات والأسر.. وتلك قفزة مروعة.
مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية «أونكتاد»، وصندوق النقد الدولى، أكدا أنّ الركود الناتج عن صدمة «كورونا» قد يؤدى إلى عجز فى الدخل العالمى بقيمة تريليونى دولار.. بنك جولدمان ساكس، تحدث عن انكماش الناتج المحلى الإجمالى الحقيقى على مستوى العالم حوالى 1 % عام 2020، وهو ما يفوق معدل التراجع الاقتصادى الذى تسببت به الأزمة المالية العالمية 2008، النشاط الصناعى فى الصين تراجع بأكبر وتيرة فى نحو 3 عقود خلال أول شهرين من العام الحالى، بعد الشلل الذى سببته «كورونا» لأكبر اقتصاديات العالم.. مجلة «فورين بوليسى» العالمية الرصينة، كتبت «إن الاقتصاد العالمى دخل فى حالة من الركود الشديد، وأن الانكماش سيكون مفاجئًا وحادًا بسبب تفشى الوباء»، متوقعة أن تكون الآثار مؤثرة لعقود قادمة.
معهد التمويل الدولى خفَّض تقديراته لنمو الاقتصاد العالمى منتصف مارس إلى أقل من 0.4 %، بعد رصد موجة نزوح لرؤوس الأموال من الأسواق الناشئة، وتصاعد الضغوط فى أسواق الائتمان الأمريكية، ونقص السيولة الدولارية بمنطقة اليورو واليابان، توقعات المعهد أن ينكمش الاقتصاد الأمريكى بنحو 0.4 %.، وفى منطقة اليورو، توقع انكماشًا للناتج المحلى الإجمالى بنحو 2.8 %، وانكماشًا آخر فى اليابان بنحو 1.5 %.، أما فى الصين فقد تحقق نمو بنحو 3 % لتلعب دورًا مهمًا فى إنقاذ الاقتصاد العالمى من براثن الركود.. المعهد اختتم بأنه إذا ما ترجعت حدة الوباء فى شهور الصيف، فقد يمكن تفادى معدلات الانزلاق نحو الركود فى النصف الثانى من العام الجارى، لكن ذلك فى تقديرنا لا يبدو محتملًا.
الأزمة والتغيرات الهيكلية
الاقتصاد العالمى تكبد خسائر بقيمة 40 مليار دولار جراء عدوى فيروس «سارس» عام 2003، خسائر «كورونا» ستتجاوز ذلك بأضعاف، التبعات الاقتصادية لـ«كورونا» أضخم مما أحدثته كل الأمراض والأوبئة عبر العصور، وذلك نتيجة لما أحدثته العولمة من ترابط بين المصالح الاقتصادية للبشر فى مختلف دول العالم، والنمو الكبير لصناعات النقل والسياحة والترفيه، الأسبق تأثرًا بالأزمة.. الانكماش الاقتصادى سيؤدى إلى تخلى الدول المستقبلة للعمالة الأجنبية عنهم، ما يشكل عبئًا إضافيًا على اقتصاديات الدول المصدرة والنامية، خاصة فيما يتعلق بتراجع حجم التحويلات الواردة من الخارج، والضغوط الاجتماعية، مع احتمال تصاعد معدلات الجريمة والتطرف والعنف، وتنامى الإرهاب وتنظيماته، بسبب ارتفاع نسبة البطالة وتوافر الظروف المغذية، ولن يتمكن الاقتصاد العالمى من تجاوز تأثيرات كورونا السلبية سريعا.
«كورونا» تفشت بضراوة فى أكبر ثلاث اقتصاديات فى العالم، الصين والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى، وهى تشكل أكثر من ثلثى الناتج العالمى.. الأزمة فرضت على دول العالم وعلى الشركات الكبرى التوجه نحو الاكتفاء الداخلى والعزلة الاقتصادية، ما يعنى تعزيز قبضة الحكومات وعودة التخطيط والإشراف المركزى على الإنتاج والخدمات.. الشركات العالمية والوطنية الكبرى ستسعى لتأمين إمداداتها من المواد الخام والوسيطة من مصادر متعددة، تجنبًا للخضوع لطرف احتكارى، أو مصدر يتوقف بشكل طارئ، فتنشأ أزمة خطيرة، على نحو توقف الصين التى تحتكر 80-90 % من صناعة الأدوية والعقاقير الطبية الوسيطة على مستوى العالم عن الإنتاج والتصدير عدة أسابيع، ما يفرض إعادة هيكلة الأنشطة والأهداف والأسواق، والاعتماد على السوق الداخلى لتوفير مستلزمات الإنتاج وأسواق التوزيع، بدلًا من الانفتاح العالمى الذى ثبتت هشاشته.. حكومات دول العالم ستسعى كذلك لتأمين الحصول على احتياجاتها من المنتجات الاستراتيجية باستقلالية، دون اعتماد مُخِل على الغير، لكن ذلك كله لايعنى إجراء تغييرات هيكلية فى النظام الدولى، الذى قد ينتقل فقط من العولمة التى تتمحور حول الولايات المتحدة إلى العولمة التى تتمحور حول الصين.
«الإغلاق» اختيار خاطئ
وبالنسبة لتأثير وباء «كورونا» على الأنشطة الاقتصادية، فقد بدأت كل الحكومات تقريبا بعملية إغلاق كامل للاقتصاد، لكنها اكتشفت بعد فترة أن انتشار تلك الإجراءات على مستوى العالم، وتوقف حركة التجارة الدولية، هددا بنفاد الأرصدة الاحتياطية للمواد الاستراتيجية، ما فرض عليها إيجاد مبررات تسمح ولو بالاستئناف الجزئى للنشاط الاقتصادى، تجنبًا لنقص مُخِل بأمن الدولة الغذائى والمعيشى، وهو ما يفسر بعض المبالغات التى روعت العالم، على نحو ما ظهر فى تصريح أنجيلا ميركل المستشارة الألمانية بأن 60-70 % من الألمان سيصابون بالفيروس!!، وهو نفس ما أكده مستشار رئيس الحكومة البريطانية، من ضرورة تمكين الوباء من الانتشار، لضمان استمرار العجلة الاقتصادية، لأن انتشاره سيوفر مناعة جماعية لمعظم البريطانيين، وكرر نفس الفكرة مسئول إسرائيلى سابق.. فكرة العودة لاستئناف النشاط الاقتصادى، مع مراعاة الضوابط الكفيلة بمنع انتقال العدوى تفرضها الضرورة، ولكن دون ترويع ممجوج.
مراجعة مبادئ العولمة
أمريكا اكتشفت أن العولمة التى خرجت من عواصم الغرب الرأسمالى، بهدف غزو أسواق العالم بصادراتها من السلع والمنتجات، انقلبت فى غير صالح دولها، لأنها حولتها إلى دول تابعة، تعتمد على المواد الخام والمنتجات الوسيطة من دول أخرى خاصة الصين.. إحدى نتائج أزمة «كورونا» مراجعة مبادئ العولمة، وآثارها الاستراتيجية بعيدة المدى، لتسبقها مبادىء الاعتماد على الذات.. انخفاض تكلفة الأيدى العاملة الصينية فى ظل العولمة، حقق لها فائدة استراتيجية بجعلها مركز جذب لتوطن الصناعات الرئيسية والوسيطة فى العالم، لكنها حققت للرأسمالية الغربية مكاسب مؤقتة، بينما ألحقت بدولها خسائر فادحة، بنقل معظم مصانع التوكيلات العالمية للصين، واعتماد ما لم يتم نقله على منتجات صينية وسيطة.. ترامب فرض رسومًا جمركية على الصُّلب المستورد أواخر 2018، ورغم تعرضه للانتقاد، فإنه تمسك بالقرار مؤكدًا «إن لم نمتلك صلبنا، فنحن لانمتلك دولة».. سياسات الإغلاق على مستوى العالم أكدت سلامة التوجه الأمريكى، وحتمية امتلاك الدولة لسلاسل توريد وطنية تحسبًا للطوارئ، المرتبطة بوقف حركة التجارة الدولية، أو الحروب والأزمات، فضلًا عن الضغوط السياسية.
بعض المحللين توقعوا أن تكون سياسة الإغلاق التى لجات اليها الصين بداية الأزمة، نهاية لدورها الاقتصادى والتجارى فى العالم، وبداية للاعتماد الأمريكى على الذات، لكن تلك فكرة مستحيلة، لأن الصين مصدر مهم للاستثمار وضخ الأموال للبنك الفيدرالى حيث تستثمر قرابة 2 تريليون دولار فى سندات الخزانة الأمريكية، وهى مهتمة بالبقاء فى السوق الأمريكية لاتساع قدرتها الشرائية وحاجتها لمنتجاتها، وتمكنت من تجاوز العقوبات الأمريكية.. وفى النهاية قد تتمكن أمريكا من استعادة جزء كبير من قاعدتها الصناعية الوطنية، لكنها لا تستطيع تجنب التعاون مع الصين أو حتى مع روسيا.. تلك طبيعة العصر ومواصفات عالم المرحلة.
العمل والتجارة عن بُعد
تطوير حياة البشرية والتحول فى ثقافة العمل وبيئة الأعمال، استنادًا إلى تطبيقات وتسهيلات الإنترنت، تأخر كثيرًا، رغم أن فيروس «سارس» 2003، تسبّب فى تغيير عادات الناس الشرائية، وأبعدهم عن المولات التجارية ليعتمدوا على الشراء عن بُعد، لكن عدم استمراره فترة طويلة، أعاد الاعتماد على الأدوات التقليدية.. «كورونا» أجبرت الناس على المكوث بمنازلهم، وأصبح التسوق عن طريق الإنترنت ضروريًا، والتعليم عن طريقها حتميًا، والعمل عن بعد أضحى الوسيلة الوحيدة لنشاط المؤسسات، والدفع الإلكترونى بات وسيلة تجنب مخاطر تداول العملة، وكلما امتدت الجائحة، تحول العمل من المنزل من حل مؤقّت إلى حالة دائمة.. الجائحة تعجل الانتقال إلى مرحلة جديدة من التطور، كانت لازمة للاستمتاع بالمزايا التى أتاحتها الإنترنت للبشرية.. ما يفرض إعادة هيكلة المؤسسات من الداخل ومراجعة مواصفات قياداتها واحتياجات العاملين من برامج التدريب، على النحو الذى يسمح بالانتقال التدريجى إلى مرحلة الإدارة والتجارة عن بعد.
التسويق عن بُعد
التسويق فى عالم ما بعد «كورونا»، وسيادة قيم التباعد الاجتماعى، سيتجه للاعتماد بقوة على «التسويق عن بعد» و«virtual reality الواقع الافتراضى»، وهذا يصلح بقوة فى مجال العقارات وكذا المنتجات التى تفرض طبيعتها تعرف المستهلك عليها، والاختيار بين أكثر من نموذج أو موديل أو لون.. استخدام هذه الأدوات يناسب حالة التباعد الاجتماعى المفروضة حاليًا، والتى قد تصبح عادة لفترة طويلة، وهى أداة ناجحة، بل ربما تكون مخرجًا من الكساد الكبير المنتظر.. اللجوء لهذه الأداة التسويقية ينبغى أن يتم وفق ضوابط، تراعى فيها طبيعة ما يتم تسويقه، وتوقيت الطرح، فالعقارات هى من أنسب مايمكن تسويقه بأسلوب الواقع الافتراضى، ولكن يعتبر اختيار توقيت طرحها أمرًا بالغ الأهمية، لأن العميل لايمكن أن يتجه لشراء عقار وهو فى حالة قلق أو شك يتعلق بالمستقبل، لذلك فمن المناسب أن يتم طرحها بدايات السيطرة على انتشار الوباء، واستعادة الثقة، حيث يفكر الجميع فى تعويض حالة العزلة، وتجديد الحياة على نحو أفضل.. الطرح فى ذروة الجائحة قد يأتى بنتائج محبطة، دون أن تكون لذلك أى علاقة بالأداة التسويقية ولا بطبيعة السوق، وإنما بسوء اختيار توقيت الطرح والحالة المعنوية للمتلقى.