الإثنين 13 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

تركنا الفوازير والمسلسلات وتابعنا الأخبار...

«عندما غنى المسحراتى وحيدًا»

وتعلن الأغنية الأثيرة قدوم رمضان، تلك الأغنية التى تتسلل إلى الروح حاملة معها الفرح بقدوم الشهر الكريم، يعلن محمد عبد المطلب باللحن الذى نتوارث جماله، والكلمات التى تسلمتها الأجيال وحفظتها وتوشك أن تكون الأغنية الوحيدة التى لها هذه المكانة والحياة عبر الأجيال «رمضان جانا وفرحنا به..أهلا رمضان».



تطمئن الأمهات أن خزائن البيوت قد امتلأت بما اعتدن أن يمسينه «حاجة رمضان»، وشراء «حاجة رمضان» عادة يمارسها الفقير والغنى، كل حسب إمكانياته، وهذا ما يحدث ويظل يحدث أبد الدهر، وهو ما حدث فى رمضان آخر أو مختلف، وهو رمضان 1973.

لم يدرك أحد أنه مختلف، نفس المشاعر، الفرحة فى سحور ليلة دافئة، واستعدادًا لصوم اليوم الأول، نفس الطقوس التى تقضى معها الأمهات نصف يومهن، وحتى قبل أذان المغرب، ربما بدقائق فى المطبخ، نفس الشغف انتظارًا لوليمة أول رمضان، ذلك الانتظار الذى يضغط، وكلما ضغط الجوع على الصائمين، خاصة الأطفال الذين لا يتوقفون عن السؤال «باقى كام ساعة على المدفع».

زوزو نبيل والنقشبندي

وقبل انطلاق المدفع تكون المائدة قد أعدت، وحولها أفراد العائلة، وصوت الراديو فى ذلك الوقت وكان له المكانة الكبيرة، مع تلاوة أحد المقرئين الكبار للقرآن الكريم وفى لحظة سماع «صدق الله العظيم» يأتى صوت من بعيد «مدفع الإفطار اضرب»، يعقب الإعلان أذان المغرب بصوت جميل، كأنه قادم من السماء للشيخ محمد رفعت، ثم تواشيح للنقشبندى الذى كنا نسمعه ونحن أطفال كأنه السحر من فرط الجمال.

وتتواصل ليالى رمضان وطقوسها مع برامج الإذاعة، وتبدأ تلك الموسيقى الساحرة «ألف ليلة وليلة» وصوت زوزو نبيل الأنثوى القوى لامرأة تملك الدلال والإرادة.. «مولاى».

ويليها فوازير رمضان بصوت آمال فهمى بنطقها المميزة لحرف الراء، ثم مسلسل إذاعة الشرق الأوسط، لعبد الحليم حافظ، ونجلاء فتحى، «أرجوك لا تفهمنى بسرعة».

وهكذا تنقضى أيام وليالى رمضان مع الزيارات المتبادلة بين الأقرباء والأصدقاء وتبادل الحديث حول ما تقدمه الإذاعة وما يقدمه التليفزيون وعن جمال «نيللى» والفوازير والمسلسلات.

حالة من الفرح والبهجة وخلو البال، هى حالة رمضان حتى جاء رمضان آخر مختلف، وعاش فيه المصريون الفرح والبهجة بشكل أعمق وأقوى، وانشغلت القلوب والعقول والناس بما هو قادم.

 «الله أكبر»

وفى اليوم العاشر من رمضان عبرنا قناة السويس وحررنا أرض سيناء، فى منتصف نهار ذلك اليوم توقفت برامج الإذاعة والتليفزيون، وشعرنا بحالة من القلق والترقب، التففنا كبارًا وصغارًا حول «الراديو»، حالة من انتباه الكبار، منعت الصغار من الحركة والكلام، وكأن العقول قد توقفت عن التفكيرانتظارًا للقادم، حتى أعلن بيان «عبور قواتنا المسلحة إلى الضفة الشرقية لقناة السويس». ارتجت حوائط البيت بالصراخ والهتاف «الله أكبر» ولا أعرف من كان يحتضن من، ومن كان يبكى، ومن جلس مكانه غير مصدق، وكأنه فى حلم، وفى وقت لا يمكن حسابه، كان الناس فى الشوارع، وامتلأ بيت جدى لأمى ببلدتنا -كفر صقر بمحافظة الشرقية- بشباب العائلة ورجالها.

وتبدل رمضان، لم يعد هو رمضان، لا «ألف ليلة وليلة» ولا مسلسل الشرق الأوسط، ولا فوازير نيللى، رغم أن خريطة البرامج لم تتغير ولكن أيام ما بعد الحرب كانت هى أيام البحث الدائم والتوقف والصمت عند سماع نشرات الأخبار، سواء من الإذاعة المصرية أو من الإذاعات الأجنبية.

صافرة الإنذار

ولأنه رمضان مختلف، فقد سمع جيل لأول مرة صوتًا جديدًا عليهم، هو صوت «صافرة الإنذار» وكانت تنطلق بلا مواعيد، محدثة دويًا يحمل معه للأطفال إحساسًا وخوفًا من خطر كامن وغير مفهوم، وعند سماع الصوت يختبئ الأطفال فى حضن أمهاتهم، وتتمتم الأمهات بالدعاء «ياساتر يارب» حتى انطلاق «صافرة الأمان».

كان الليل طويلا، واختفت تقريبًا أصوات الأطفال وأغنيتهم الخالدة «وحوى ياوحوى»، وقد أصبحت بالنسبة لهم «صافرة الإنذار» هى الأمر بالعودة للبيوت، وإطفاء شموع الفوانيس، واختفى تقريبًا سير الأطفال خلف المسحراتى، واختفى نداء اصحى ياواد..يا ..كان فى رمضان 73 المختلف يسير وحيدًا، يضرب على طبلته ضربات حذرة، أو لنقل مسئولة، وكأنه بدقاتها سينبه العدو لوجوده، أتذكر بعد كل هذه السنوات انقطاع الكهرباء المتواصل، وهذا يعنى أن زينة البيوت والشوارع لم تعد مضاءة، وأتذكر صوت الشباب، وهم يجوبون الشوارع وأمام البيوت، بصوت تحمل طبقاته الأمر والسلطة، اطفى النور، طفوا النور.

كان رمضان مختلفًا، تأجلت فيه المدارس والجامعات، وتوقفت حركة الطيران، وكان معه أول اختبار لتحمل المسئولية تجاه الوطن الذى حارب وانتصر، فقبل الأطفال إطفاء شموع فوانيسهم وشاركوا فى طلاء زجاج النوافذ بالأزرق، وجلسوا بجوار الكبار يتابعون نشرات الأخبار.