الخميس 3 أكتوبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

رجولتي اتولدت يوم 25 يناير محمد جمال

رجولتي اتولدت يوم 25 يناير محمد جمال
رجولتي اتولدت يوم 25 يناير محمد جمال



الرهان على الشعب.. كلمة طالما قلناها ورددناها.. وقتها كان الاتفاق والمتفقون على ما هو بديهى هم الكثرة، أو هكذا كنت أتصور، تغيرت الأحوال وتبدلت و«تكعبلت وتشقلبت» لدرجة مخيفة، جعلت البديهى استثناءً والمتفق عليه بديهياً أصبح أشد الأمور خلافاً واختلافاً، لكن القاعدة الوحيدة الثابتة أو بمعنى أدق مازالت ثابتة حتى هذه اللحظة أن الثورة كفكرة وقيمة ومعنى تبحث عن مخرج وأوقات أكثر تبحث عن خرم إبرة لتحقيق ولو جزء من أهدافها، ولكن مما لا شك فيه أن الثورة كسبت «بنى آدمين» وأكسبتنا الثقة فى بعض البنى آدمين، حتى وإن كانوا قلة بالمقارنة بالقطاع الأوسع لمن باع، فهى نجحت أن تعيد لنا ثقتنا بأننا أصحاب البلد دى.

 
محمد جمال.. واحد من أصحاب البلد - شاب فى الخامسة والعشرين من عمره، أنهى دراسة امتياز الطب، عرفته بالصدفة من خلال د. داليا عبدالرحمن، صديقة طبيبة رائعة، حدثتنى عن موهبة محمد فى الكتابة وكم أن لغته فى التعبير عن آرائه بنصوص مكتوبة أمر مدهش، هذا هو حماس د. داليا الإيجابى، لم يتوقف عند حد الإطراء الشخصى، لكن البحث عن وسيلة لتعريف الناس المتقاربين ببعضهم البعض.. ألم أقل لكم أن روعة هذا البلد هو ناسه.
 
 
 
قرأت لمحمد جمال قبل أن أقابله.. فعرفته إلى حد كبير، وتحولت معرفتى به بعد حوار طويل إلى تفاؤل.. أن هذا البلد حتماً سيعود إلى أصحابه.
 
هو نفس تفاؤل محمد الذى يحكى عن نفسه أنه كان شخصاً شديد التشاؤم والإحباط، ولكنه وبعد ميلاد جديد فى 25 يناير، استحضر نفسه الحقيقية: كتب الدكتور محمد:
تلك النفس الجديدة.. ما مصدرها؟
 
إيمانك بنفسك هو ما يجعلك تنزل من بيتك فى أيام الثورة حتى لو كنت مريضا ولا تستمع لتوسلات أمك بالبقاء ولا تجد مبررها - بأن التحرير مليان - مقنعا أنك تشعر أنك مهم.
يعتقد جزء خفى من روحك أن بقعة ما من الأرض لن يشغلها سواك، وأن قطعة بعينها من السماء لن تظل أحدا غيرك.
 
إيمانك بنفسك هو ما يجعلك تنزل إلى التحرير وأنت تعلم جيدا أنك لن تعود قبل حظر التجول، ولكنك تنزل حتى لو لم تعلم كيف ستعود.. إيمانك بنفسك هو ما يجعلك تنزل المرة تلو الأخرى مؤمنا أنك لا يمكنك التخلف وأنك لن تسكت على ظلم أو خيانة حتى لو نزلت وحدك.. إيمانك بنفسك هو ما يجعل فى قلبك مكانا لغيرك لأنك تدرك أن الله لم يمنحك هذه القوة النفسية من أجل أن تستأثر بها.. ولكن من أجل أن تثبت وتعين غيرك على الثبات، فتمسك شابا مختنقا فى محمد محمود يوشك أن يتهاوى إلى الأرض تحت أقدام جماهير تركض خلف ذرة من هواء لا يخنق أو بقعة لا يطولها الخرطوش لأنك سمعته يتمتم - هموت - فتقول له -متخافش - أنت مش هموت - تتذكر وقتها كم أنعم عليك الله حين منحك تلك النفس وأنت الذى جبنت يوم الخامس والعشرين عن حمل طفلة تختنق لأنك خفت أن يمسك بك الأمن المركزى أو يصيبك.
 
أنا متفائل لأنى أدرك أن قوة هذه الثورة جاءت من داخلنا نحن.. فلن تهزم على الأرض قبل أن تهزم فى النفوس.
 
متفائل لأن لدى وصفة سحرية لم تخذلنى أبدا حين يشتد الخطب ويعظم الكرب المحيط بهذه الثورة.
 
وصفة تتلخص فى أن أغلق عينى.. وأطفئ كل أنوار عقلى.. وأستحضر صور أناس ماتوا من أجل أن تحيا ضحكة مصر.
 
وأتذكر تضحياتهم فى سبيلها.. فإذا أنا أشد عزما عن ذى قبل.. وأكثر تفاؤلا.
 
محمد مثل كثيرين من المصريين أصابهم التفاؤل، وأطاح بهم الإحباط صعوداً وهبوطاً، لكنه مثل الكثيرين من أصحاب البلد الذين شاركوا فى ثورة هذا البلد يراهنون على ناسه، رغم أنه - على حد قول محمد: لا أنكر أننى رغم إيمانى بهذه الثورة إلا أن الصدمات التى توالت علينا جعلت المهمة أصعب: صدمتنا فى المجلس العسكرى وحكومة شرف، صدمتى فى القوى السياسية المختلفة، وصدماتنا المتلاحقة فى الإخوان المسلمين، ثم «الوعى الشعبى»، وأنا هنا لا أتحدث عن درجة ثقافة أو تعليم، لكننى أتحدث عن «طريقة الناس فى حكمهم على الأمور»، فقد أذهلنى انقلاب الناس على الثوار، هجوم الناس على البرادعى.. أذهلنى اتهام الثوار بالبلطجية.
محمد جمال يقول فى أحد كتاباته الرائعة قائلاً: «عندى ولع غير عادى بالشهداء.. لا يستند فقط إلى مكانة دينية ولا إلى فضل شخصى على كما أسلفت.. ولا إلى خاطر يطوف بذهنك عن احتمالية كونك مكان أحد منهم أنا دائما أتطلع إلى صورهم.. أقرأ فى سيرتهم، لكن الأمر صار مرهقا فعلا صار مرهقا.. أنهم يزدادون، فى كل مرة تضاف إلى روحى ندبات أخرى، ماسبيرو، محمد محمود، مجلس الوزراء، بورسعيد.. وفى كل مرة يتحدث السفلة عن تعويضات.. تتباكى العاهرات على شباب كان يلعنهم، يصرخ القوادون لاعنين الثورة.
 
يخرج الطبيب ذو الصوت البارد الذى يفتقد إلى أى لمحة من لمحات الحياة كى يضيف أرقاما جديدة فى خانة الموت.
 
المصيبة أنهم ليسوا أرقاما.. ليسوا أرقاما هم حيوات.. بشر.. أحلام ضاعت.. زوجات مترملة.. أطفال أيتام.. هم بعض من كفاح الآباء ودعوات الأمهات.
 
هم مثلنا تماما.. بعضهم نزل لأن كيلو الأرز وصل سعره إلى خمسة جنيهات.. بعضهم لا يستطيع أن يتزوج بعضهم يتمنى مستقبلا أفضل لأبنائه.. بعضهم عنده كل شىء ولكن إنسانيته أبت عليه إلا أن يدافع عن حقوق من ليس عندهم أى شىء.
 
علاء بسيونى كان يقف بجانبى
 
علاء عبد الهادى كان زميلاً لى
 
أحمد أهاب كان زميلاً لقريبى
 
سيف مصطفى كان قريباً لصديقة
 
عماد خزام كان تلميذا لآخر
 
محمد الطبيب الذى يحلم أن يقدم من خلال مهنته أقصى قدر من الخدمة للمصريين، ويحلم أن يقدم لهم من خلال مشروع الكتابة أكبر قدر من التوعية، فتح مدارك أخرى لهم، تحريضهم على التفكير، محاولة لتحريك مشاعرهم ووجدانهم ومنطقهم نحو الإنسانية.
 
يراهن محمد على هذا الشعب الذى لو أراد أن يقاوم الفساد، لوكانت لديه الرغبة الحقيقية فى إنهاء الفساد الذى لم ينته حتى بفعل الثورة، أزمتنا أنهم نجحوا فى محاولة تشويهنا، والرهان أن نستعيد إنسانيتنا ونطور أنفسنا ونرفض الظلم، نرفض أن نعود إلى المنحدر مرة أخرى، الرهان أن نعرف عيوبنا ونواجه أنفسنا بها، نفهم أن أخطر عيوبنا هو أننا نتعب جداً ونبذل مجهوداً خرافياً والنتيجة قليلة، فعلى سبيل المثال فى كلية الطب، ندرس ونعافر، ونتطاحن على النصف درجة، ولكن النتيجة ليست بالضرورة تعنى طبيباً كفأ للأسف الأطباء لا يقومون بأدوارهم كأطباء فحسب أو لتطوير أدائهم كما يحدث فى دول العالم، ولكنهم مطالبون أن يقوموا بدور التمريض أحيانا الممارس العام قد لا يكون مستعداً بشكل كاف علمياً ومهنياً، ولكن «السيستم» أتاح له «التجربة فى أرواح البشر»، للأسف هناك العديد من الكفاءات والموهوبين يخرجون من البلد للبحث عن الأمان المادى وللبحث عن التقييم المهنى والعلمى العادل.. للأسف نحن فى زمن إذا رفض فيه شخص أن يعطى رشوة لتسهيل أموره.. فهذا يعنى أنه رمى من يده سلاحا، لكنه لا يعنى أنه منع الأسلحة.
 
صورة «البروفايل على صفحة محمد جمال هى صورة الشهداء.. الورد اللى فتح فى جناين مصر» كتب محمد عنهم:
 
سؤال بس هو أنت مش ممكن تغير صورة البروفايل دى؟
 
سألنى صديقى هذا السؤال منذ شهور حينها أجبته بأن هذه الصورة هى كل ما لدى من ماض وحاضر ومستقبل، فقد ولدت ذكرا قبل أربعة وعشرين عاما لكننى لم أصبح رجلا إلا فى الخامس والعشرين من يناير من العام المنقضى، ومنذ ذلك التاريخ وأنا أحسب حياتى وأسجل ذكرياتى فى ماض أصبح له معنى.
 
أخبرت صديقى يومها أن هؤلاء هم نقطة النور فى داخلى تلك الشمعة التى تنير كهفا موحشا مظلما تعودت على ظلمته زمانا قبل أن يصفعنى نورها.. هل تدرك ذلك الإحساس؟
 
حين تأوى إلى ركن ما فى داخلك تستشعر فيه اليقين حين تستريح روحك ويستقر قلبك فى ظل واحة من الإيمان بشىء ما والاطمئنان إليه لذلك أحتفظ بالصورة.. لأنها ذكرى.. وحياة.. وأمل ليس تكريما لهم أنا أعلم أنهم لا يحتاجون إليه بقدر كونه احتياجا منى إلى ذكراهم.
 
أقول هذا اليوم وأنا أجد نفسى كل يوم مطالبا بأن أوسع الصورة فى عقلى وفى قلبى وفى روحى وفى حياتى كى أضيف لها أسماءٍ جديدة ووجوها جديدة.. كلها تبتسم.. تحلم.. تتمنى.. كلها تفيض بحيوية الشباب.. تنطق برغبته تصرخ دون أن تسمع مستقبلا لن تراه.
 
صدق محمد.. فى نهاية كل نص من نصوصه يختتمها بجملة: «عاشت مصر.. تحيا الثورة».