الثلاثاء 21 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

أمى التى لا أعرفها

أمى التى لا أعرفها
أمى التى لا أعرفها


 
ابتسامتها الهادئة عنوان لا تخطئه، جلستها المتواضعة بظهرها الذى يميل إلى الانحناء يبدو وكأن هناك ما أثقله، نظراتها البعيدة إلى الطريق لا تشاهد ولا تراقب وإنما تتأمل فى شىء قد لا أراه أنا أو أدركه إنما تتابعه هى باهتمام، وكأن شريطا من الذكريات يمر أمامها فتنتبه إليه دون أن تعبأ بمن حولها.
 
شفتاها تتمتمان بين الحين والآخر بكلمات عن الحمد والشكر لله.. جذبتنى تلك الأمومة الصامتة على رصيف الشارع، وكأنها أحد التماثيل الرخامية الرائعة فى شوارع أوروبا، ولأننى فى مصر تذكرت أنها بشر وليست تمثالا أصم، طوال عامين وأنا أمر بها فى طريقى إلى عملى ولم أسمع لها صوتا، اقتربت منها فمدت يدها لتعطينى شيئا مما تبيع فقبضت على يدها برفق فشكرتنى وظلت دعواتها تتابعنى حتى وصلت إلى آخر الرصيف.
هى امرأة مات عنها زوجها منذ خمسة عشر عاما ولم يكن لها من عائل، فلا أخ ولا ابن أكبر يعيلها او يرحم كبر سنها، ورغم ذلك فلم تمد يدها لتطلب «حسنة» ولكنها كانت مؤمنة أن المحسن هو الله فدقت باب رزقه ثم توكلت عليه، وما كان عليها إلا أن ترتدى جلبابها الأسود وتخرج لتسعى على رزق أبنائها وهى لا تزال صامتة لا تتأفف أو تستعطف من يمر بها.
 
وقد جعلت تلك المرأة من الصبر مركبا ومن التعفف مجدافا لتعبر به وبأبنائها إلى بر الأمان.
 
وهذه المرة اقتربت منها أكثر لأتحدث إليها، وأنا كلى فضول لمعرفة القصة التى وراء تلك الجلسة العفيفة والعين الحزينة، والتى لم أرها تشكو يوما لأحد من عابرى الطريق، ومن هنا بدأت حديثى مع تلك المرأة الصامتة لتقول بابتسامتها الهادئة:
 
أهلا يابنتى عايزة مناديل ولا خدى اللى تعوزيه ياحبيبتى، فقلت لها إنما أريد الحديث معك، فصمتت وهى متحيرة بين قبول دعوتى إليها بالحديث وبين رغبتها فى السكوت كعادتها.. ولكن إصرارى هو ما دفعها للقبول وإن ظهر عليها بأنها لم تكن مرحبة فى البداية، عرضت عليها الجلوس بأحد المقاهى بدلا من الشارع لأن الطقس كان وقتها غير مستقر بين الأتربة وزحام المارة ولكنها رفضت تماما هذه الفكرة وأضافت قائلة: «ده مكان أكل عيشى ومش هرتاح إلا هنا» فوافقتها دون مناقشة بعد أن لاحظت إصرارها على البقاء بالمكان، ثم سألتنى عن سبب الحديث فقلت: «أنا حديثى معاكى عشان عيد الأم، ولأول مرة أرى ابتسامتها الصافية تعود إلى وجهها، وفى نفس اللحظة رأيت عينيها وقد فاضت بالدموع فمسحت بطرف شالها دمعها ووجهها ثم قالت وعيناها تفيضان بالحنان «ربنا يسعدك يابنتى»، ثم قالت وإحساس الشجن يختلط بصوتها: «أنت رفضت تقعدى على الرصيف عشان مش قيمتك لكن الرصيف ده هو بيتى التانى، وعشت عليه 15 سنة بعد ما مات جوزى وعندى منه 3 أولاد وقتها مكنتش عارفة أروح لمين ولا أعمل إيه فجوزى كان أرزقى على باب الله ومعاشه 05 جنيه وإحنا ناس غلابة لا عندنا أهل ولا حاجة نتسند عليها، ابنى الكبير كان متجوز أيام والده وشقينا على ما جوزناه وهو أغلب من الغلب يدوب مكفى مراته وولاده فخرجت من بيتى عشان لقمة عيشى أنا وولادى اللى معايا وكانوا ولدًا وبنتًا، والحمد لله ربنا ألهمنى وخرجت أبيع فى الشارع مناديل على فرشة لكن بعيد عن المنطقة اللى إحنا ساكنين فيها - مدينة السلام - عشان ولادى ميزعلوش أنى ببيع فى الشارع وجيت على هنا فى السيدة زينب عشان كنا ساكنين هنا زمان وبيتنا اتهد فى الزلزال وبعد فترة سكنونا فى شقة بمدينة السلام والحمد لله الناس هنا عارفانى والمنطقة باحس فيها بالأمان، وكنت كل يوم أخرج بعد صلاة الفجر وآخد الحاجات اللى هبيعها وأركب أتوبيس 919 ولما كانوا عاملين إضراب كنت بأركب ميكروباص وأنا مروحة للسيدة عائشة وأغير، وأوصل هنا على الساعة 7 الصبح وأقعد لحد الساعة2 الظهر وأرجع على البيت، ومن 10 سنين ربنا ساعدنى وجوزت ولادى الاتنين، وابنى سكن معايا فى الشقة- أوضتين وصالة - عشان مفيش مكان يعيش فيه فهو ومراته فى أوضة وأنا فى أوضة والولاد فى الصالة.
وفى مرة عدت عليا ست طيبة بتقول إنها موظفة فى شركة وقالت لى إنها هتجيب خضار وبصل وأقلام عشان أبيعها لحسابها وبعدين تدينى اللى فيه النصيب.
«ربنا مبينساش حد، وفى أولاد حلال بيساعدونى».
 
وعندما سألتها عن المعاش قالت: «الحمد لله زاد مع الوقت ودلوقتى وصل 200 جنيه».
 
وعندما سألتها مبتسمة عن هدية أبنائها لها فى عيد الأم قالت وهى تنظر إلى الطريق: «ربنا يقويهم على حالهم بس يكفوا نفسهم أصلهم مش موظفين وعلى أد حالهم، ومش بزعل منهم لما مش بيجيبوا حاجة فى عيد الأم عشان حالهم على أدهم بس ممكن واحد فيهم يدينى 01 جنيه أو 5جنيه وآخر مرة كان نفسى فى «حتة قماش أعملها جلابية» بس ابنى قاللى لما تفرج، وأنا زعلت من نفسى إنى طلبت منه وهو صاحب عيال وكفاية عليه همهم، ثم ودعتنى وهى تقول لى حكمة: «متنتظريش حاجة من عبد زيك لكن افتكرى إن ربك دايما كريم».