الخميس 3 أكتوبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

أبنــاء جاحدون .. ولكن!

أبنــاء جاحدون .. ولكن!
أبنــاء جاحدون .. ولكن!


 
قابلته جالسا على كرسى داخل السوبر ماركت الذى كنت ذاهبة إليه لأشترى بعض الأشياء للبيت.. لاحظت رجلا عجوزا تعدى الثمانين عاما.. جالسا يراقبنى بتمعن وأنا أنتقى الأشياء من السوبر ماركت.. وكنت أتحدث لأبى فى التليفون وأسأله عن احتياجاته، أغلقت التليفون وتلاقت أعيننا.. فابتسمت مجاملة له.. فإذا به يشير لأقترب منه.. ففعلت.. وذهبت له.. فإذا به يسألنى «كنت بتكلمى بابا؟» فقلت له «نعم» فسألنى «ماما عايشة» فجاوبته بالنفى.. فابتسم بحسرة وهو عامل إيه؟ فضحكت وقلت له «الحمد لله.. أصل هى توفت من زمان» فعاد ليسألنى بحسرة «وأنتم بتسألوا عليه ولا بتنسوه» فجاوبته باستغراب «لا.. نسأل عنه طبعا، فأنا مازلت أعيش معه». فجاوبنى قائلا: «يا بخته»
 
فسألنى ممكن أديكى تليفونى وتسألى على أنا كمان.. فجاوبته بنظرات تعجب.. فقال لى أنا كنت راجل مهم.. بشتغل فى البنك المركزى وكان عندى زوجة وأولاد.. عملت لهم كل حاجة واشتغلت ليل ونهار علشان نعيش أحسن عيشة.. حتى زوجتى لما تعبت جبتلها خدم وممرضات.. لغاية ما ماتت وكأنى أنا كمان مت.
 
أولادى نسيونى.. مش عارفين أنى أبوهم ومن حقى عليهم أنهم يراعونى.. أنا تعبت كتير علشانهم ولمجرد أن زوجتى «أمهم» ماتت قاطعونى وإذا جاءوا لى البيت يجلسون صامتين.. لا يتكلمون معى وإذا نصحتهم نصيحة أو انتقدتهم.. يتركوننى ويذهبون!!
 
أنا الآن أسأل نفسى ماذا فعلت لهم؟ بما قصرت؟
 
لكنى حقا لا أعرفهم.. فقد تركت كل هم البيت لزوجتى رحمها الله.. هل هذه هى غلطتى؟ لا أعرف!
 
ثم نظر لى مرة أخرى ورجانى أن أسأل عليه من وقت لآخر.. كما أسأل عن والدى.. أصبح هذا الرجل صديقا لى الآن.. ولكنه كان بوابة ليخرج منها على غربة الآباء داخل بيوتهم وبين أسرهم ولدينا نماذج لنعرضها عليكم والحكم لكم.. فالنتيجة دائما أبناء جاحدون ولكن رغما عنهم.
 
∎ للصبر حدود..
 
ظلت وحيدة منذ وفاة والدتها وهى فى الثامنة عشرة من عمرها منتظرة عودة الأب الغائب فى غربته بحجة تأمين المستقبل انتظرته طويلا ليقف بجانبها ضد قسوة الناس والحياة.. مرت سنوات.. وسنوات.. وسنوات..
 
فقدت خلال سنوات الوحدة الكثير.. أحلامها.. أعصابها.. صبرها.. إحساسها بالأمان والثقة بمن حولها.. حتى أنوثتها التى اضطرت لإسدال الغطاء عليها خوفا من طمع الناس بها.. وبعد أن تمت الخامسة والثلاثين من عمرها.. قرر الغائب العودة.. فعادت لها الأحلام.. حلمت بأن تعود الفتاة التى تعيش فى ظل والدها وفى حمايته وتحت رعايته.. حلمت بيده تربت على كتفها وشعرها تخفف عنها آلام الزمن وقسوته، فرحت بأنها أخيرا سيأتى من يتحمل مسئوليتها.
 
لكنها فوجئت أنه عاد عاجزا.. عاجزا عن كل شىء.. وأى شىء.. عاد طامعا فى حنانها.. راغبا فى أن تشعره هى بالدفء والاستقرار، فقد كان طوال هذه السنوات الطويلة يبعث لها بمصروف شهرى فاعتقد أنه حان الوقت ليقبض الثمن.
 
لكن.. هى أبت أن تقترب منه.. أبت أن تعطيه من حنانها وحبها ليس جحودا كما أسماه البعض ولكن على حد قولها «فاقد الشىء لا يعطيه».
 
هذه ليست القصة الوحيدة التى يدفع بها الآباء والأبناء ثمن الطمع والجرى وراء الرغبات فيضيعون فى تيه الغربة والجفاء.
 
∎ ندَّاهة الغربة
 
هذا أب آخر.. سافر مع زوجته للخارج.. دولة عربية.. سافر شابا مع عروسه.. كان ينتوى السفر لبضع سنوات ثم العودة مع زوجته مرة أخرى لتأسيس شقة بمصر وعمل مشروع صغير ويستقرا سويا.
 
سافرا وأنجبا الطفل الأول، فالثانى والثالث فالرابع وسنوات الغربة تمر بطيئة.. ثم قررا العودة بعد 21 سنة غربة.. لكن رغد الحياة فى الخارج ظل يشده.. يجذبه.. إلى أن استسلم لنداهة الحياة الفخمة وقرر ترك زوجته وأولاده وأن يعود لدوامة الغربة.. بالفعل عاد.. وظل أربعة عشر عاما وحتى الآن.. يعود لزيارتهم سنويا محملا بالهدايا والقصص التى تنتهى زهوتها فى أول يوم.. ثم يصبح كرجل غريب اقتحم حياتهم دون حق أو سابق إنذار.. يعاملونه كضيف له حق الضيافة.
 
يظل يشكو طوال الشهر الذى يقضيه معهم أنهم مشغولون عنه.. وهم بالفعل مشغولون عنه بحياتهم ومشاكلهم التى أصبح هو ليس طرفا بها.. وهو حتى لا يحاول التدخل إلا إذا كانت المشكلة مشكلة مادية.. فقد أصبح بنكا متنقلا على شكل أب.. فهو يأتى الإجازة لقضاء وقت «لطيف» بين أسرته.. يتمتع بدفئهم الذى يراه ثمنا لغربته التى يقنع نفسه أنها من أجلهم إلا أنه لا يجد من يدفع له.. أو يعطيه أى شىء.. فهم لم يأخذوا منه أى شىء.. هو غريب.. مجرد بنك.. مع الوقت.. يبدأ فى ملاحظة هذا الجفاء.. فيبدأ فى حرمانهم منه.. «المال» هذا كل ما يملكه.. فيقابل بالعنف.. وجفاء أكبر.. وإهمال أكبر فى المعاملة.. حتى أنهم لا يردون عليه أحيانا عندما يحدثهم من الخارج.
 
أصبح بالنسبة لهم عبئا يحملون همه.. وهم حضوره إليهم.. حتى أنه فى آخر زيارة أشار لهم أنه قد مل من الغربة وأنه يفكر فى العودة والاستقرار معهم.. كان الرد هو الصمت.. الصمت الرهيب.. وكل فرد منهم يفكر كيف سيعيشون مع هذا الغريب فى بيت واحد؟ ويدعون فى قلوبهم أن يتراجع عن هذا القرار الذى هو بالنسبة لهم «مصيبة طبت على دماغهم».
 
قال لى أحد أبنائه: هو اختار يتغرب ويسيبنا.. هو اختار يكلمنا مرتين فى الأسبوع.. هو اختار مايهتمش بمشاكلنا ورامى الحمل على أمى.. إحنا ما اخترناش.. يبقى لازم يتحمل نتيجة اختياره.. إحنا ما نعرفهوش.. مش متعودين عليه.. ازاى نقدر نتعامل معاه زى أى أب عايش مع أولاده ومعاشرهم ومصاحبهم ازاى؟.
 
∎ فات المعاد..
 
أما هذا الأب فغربته عن أولاده لم تكن يوما بسفره للخارج.. بل كانت بسبب نزواته ورغباته.. عندما اقترب على سن الأربعين وكان قد أنجب فتاتين.. وأحس أن المسئولية تلف حبالها حول رقبته.. وأنها تزج به فى غياهب العجز والشيب.
 
قرر أن يعود خطوات للخلف.. وأن يتأكد أنه مازال شابا ومرغوبا.. بدأت أولى خطوات غربته.. عندما دخلت زوجته وبناته فى يوم للبيت وقد كان يعتقد أنهم سيبيتون عند جدتهم.. فوجدته فى أحضان أخرى.. شابة فى الحادية والعشرين من عمرها.
 
أصرت الزوجة على الطلاق وهى فى الثالثة والثلاثين من عمرها.. كسرها وكسر بناته الصغار.. دون أن يستوعبوا كيف كُسروا ولماذا؟
 
كل ما شعروا به هو شعور غريب بعدم الأمان.. خاصة عندما ترك البيت وتزوج من أخرى.. وتزوجت أمهم من رجل متزوج بأخرى.. فقط لتستطيع تأمين حياة كريمة لبناتها.. فقد نسى الأب الدونجوان أن لديه مسئولية لا تنتهى بورقة طلاق.. أو بالانتقال لبيت آخر.. كبرت البنات.. وكبر هو أيضا.. مع الزوجة التى تصغره بعشرين عاما وأكثر.. بدأت تمل منه ومن كبره.. ومن الشعر الأبيض فى رأسه.. ففعلت به مثلما فعل هو بأسرته.. كانت تتركه وتخرج مع أصدقائها الذين يشعرونها أنها مازلت شابة فبدأ هو يقلب فى دفاتره القديمة.. ويرفع سماعة الهاتف وليتحدث لبنته الصغرى التى تركها وهى فى السادسة من عمرها.. ترفض الحديث معه.. فهو بالنسبة لها رجل كل ما فعله معها هو جرحها جرحا غائرا فى قلبها جعلها تشعر أنها حمل منذ أن كانت طفلة.. حمل على قلبه.. كرهت الضعف.. أصبحت تبحث عن الحب منذ أن بلغت الرابعة عشرة أصبحت ترتبط بأى شاب يطلب مصادقتها.. كانت تبحث فى علاقاتها عن شىء ما افتقدته داخل أسرتها لا تختلف عنها الكبرى كثيرا.. غير أنها فى ويوم تجرأ هو وعاتبها على عدم سؤالها عليه.. فاستمدت الجرأة منه وواجهته وردت عليه العتاب بحقيقة.. بدأتها بسؤال «أسأل عليك ليه؟ واشمعنى دلوقت.. كنت فين طول السنين اللى فاتت عمرك رحت معايا للدكتور؟ عمرك قلقت عليا وأنا سخنة.. عمرك فكرت أنا هقضى العيد مع مين؟ عمرك فكرت إذا كنت جعانة ولا شبعانة.. محتاجة إيه حاسة بإية؟ عمرك سألت نفسك إحساسى إيه وأنا بشوف أبهات صحباتى وهم بيعطفوا عليهم أو حتى بيزعقولهم؟.. عمرك سألت نفسك يا ترى أنا ماشية صح ولا غلط؟..
 
أنت عمرك ما سألت.. ليه عايزنى دلوقتى أنا أسأل؟.. رغم إن عمرى ما سألتك أنت ليه عمرك ما سألت.. عارف ليه؟.. لأن خلاص مابقاش يفرق معايا.
 
أما هذا الأخير فهو لم يفارق أسرته يوما دائما معهم..
 
∎ الحاضر.. الغائب.
 
لكنه هذا ما يقال عنه الحاضر الغائب.. فأولوياته هى عمله ثم أصدقاؤه وزجاجات البيرة التى لا تفارقه.
 
أما أولاده الخمسة.. فهو لا يعرف عنهم شيئا فهم دائما فى غرفته بين أوراق عمله وبيرته.. وإذا خرج منها فإما معنفا لهم على ضوضاء صدرت منهم أو طلب طلبا ولم يستجاب له.
 
هذا الأب.. الحاضر الغائب.. يعتقد أنه يعلم كل صغيرة وكبيرة فى بيته عن زوجته وأولاده.. هو لا يعلم أنه مجرد صورة.. ينزلون دون علمه للخروج مع أصدقائهم.. حتى بناته التى لم تتعد إحداهن الخامسة عشرة مرتبطة بأحد جيرانها تحت علم والدتها وتخرج معه وتأتى دون علمه.. والكبرى كذلك وأيضا بعلم والدتها وذلك لأنها تنتظر اليوم الذى تتزوج فيه البنات لترتاح من هم مسئوليتهن.. حتى أنه لا يعلم إن كان مصروف البيت الذى يرميه لها كل أول شهر يكفى مسئولياته أم لا؟.. ما لا يعرفه أن أخوات زوجته هم من يقومون بإكمال ما لا يعى أنه ينقص أسرته.
 
فى يوم مرض هذا الرجل.. فلم يجد إلا كلمات رقيقة مجاملة من أبنائه.. لكن لم تدخل يوما واحدة منهم لتطمئن عليه فى غرفته.. لكن كلما كلفتهن والدتهن بعمل كوب ينسون أو أى شىء له.. ينفذن ما طُلب منهن مجبرين.. بل أنهن يرفضن أحيانا هذا التكليف قائلات: وإحنا مالنا ما يقوم هو».
 
أتخيل كل هؤلاء الآباء يجلسون سويا على القهوة كل واحد منهم يشكو همه للآخر.. معتقدين أنهم تعبوا وكدحوا من أجل أبنائهم لكنهم فى النهاية لم يجدوا منهم سوى الجحود والنكران.
 
متناسين أن هروبهم من المسئولية كان اختيارهم.. وأن تأمين المستقبل ليس بالمال.. بل بالعطاء والتواجد.. نسوا أن الأبوة ليست فطرة بل ممارسة وأنهم يجنون ما زرعتهم أيديهم.. فالبعد دائما تكون نتيجته الجفاء.
 
دكتورة سوسن فايد- أستاذ علم النفس للمركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية- تقول: إن اغتراب الآباء عن الأبناء يحدث نوعا من الجفاء العاطفى والفجوة بينه وبين الأبناء.. بعكس التراكم العاطفى الذى يوجد طوال الوقت واهتمام وشعور الابن بمسؤلية الأب نحوه وحمايته ورعايته له.. لكن عندما يحدث هذا الاغتراب لم يكن هناك رصيد يسمح للأب أن يهتم بالابن.. نتيجة اهتمامه بجمع الأموال، وفى هذا الحالة فإن الرأى العلمى يقول إذا كان الأب مضطرا للسفر لتحسين وضعه المالى فلابد من أخد أسرته معه.. إلا إذا كان هذا الاغتراب سيكون لعدة شهور فمن الممكن أن يحتمل ولم يكن له آثار سلبية مثل اغتراب السنوات!! ..لأن العائد الاجتماعى فى النهاية سيكون هو الأهم من العائد المالى.. لأنه إذا قرر المال فقط سيحول نفسه من أب إلى محفظة!!.. وأنه مجرد مسئول عن التمويل والصرف فقط.. وبالتالى فإن نظرة الابن له ستكون نفس النظرة التى قررها الأب فى البداية .. لذلك لابد من تكاتف الأسر وقوة التفاعل الاجتماعى التى يجب أن تكون مرتبطة بقرار الآباء.. وهو أنه لابد أن يكون طول الوقت ملتحما بأسرته،يث يكون هناك نوع من الرقابة والرعاية والمسؤلية .. لأنه إذا قرر الانسحاب من الأسرة يكون فى هذه الحالة حكم عليها بالتفكك وغياب العواطف وغياب القدسية الوالدية.. ومن هنا لابد أن تكون هذه الفكرة واضحة عند الآباء.. وعند اتخاذ القرار لابد أن يدرك الأب جيدا تبعيات قراره.