الخميس 8 مايو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

طريق النحل وزهور الحرية

طريق النحل وزهور الحرية
طريق النحل وزهور الحرية


خلق الله المخلوقات جميعاً على فطرة الحرية لتسعى فى مملكته الواسعة الرحبة بدون قيود ثم ميز الإنسان بنعمة العقل ليتوج حرياته بحرية الفكر والإرادة و تقرير المصير، عاشت الكائنات حريتها متمتعة بفطرة الله ولم يحدث أن تعدى أحدها على حرية الآخر، عدا الإنسان الذى تفنن فى ظلم بنى جنسه وحرمانهم من حرياتهم وقمعهم وإذلالهم. ظَلَم الإنسان أخاه وتحكم فى مصيره وإرادته فعرفت البشرية على مدى الأجيال الطغاة والظالمين الذين أذلوا شعوبهم وبنى جلدتهم، لم يستسلم بنو الإنسان، ولم ينقطع بحثهم عن هبة الله العظمى لهم فعرفوا الثورات واختاروا طريق المقاومة مضحين فى سبيل حريتهم بالغالى والنفيس واستهانوا ببذل حياتهم ثمناً لها..وكان الكتاب والشعراء والمفكرون والفنانون على مر العصور هم مشعلو شرارات المقاومة والثورات ومفجروها، بل وقودها الذى تشتعل به إن لزم الأمر.
 
 وما كان ذلك أبداً مستغرباً عليهم وهم قادة الفكر الذين اشتعلت فى قلوبهم جذوة الحق فوهبوها هدية للبشرية جمعاء كبرومثيوس سارق النار فى أساطير الإغريق، كان الرحبانيان الكبار دائماً من هؤلاء المفكرين المهمومين بفكرة الحرية ورفض الظلم والطغيان فأتحفانا مع جارة القمر الفيروزة النادرة بأعمال رائعة بقيت وستبقى فى ضمير مستمعيهم الذين طالما ألهمتهم هذه الأعمال وحركت فيهم أنبل المشاعر، كرس عاصى ومنصور حياتهما للبحث عن حرية الإنسان فى أغانى عديدة رائعة كأغنية «أنا عصفورة الشمس» وتأملا بشفافية فى حرية أبسط الكائنات كالنحل الذى رأياه يعلو بحريته على أعلى القصور فى «طريق النحل».
 
∎أنا عصفورة الشمس
 
أنشودة قصيرة تغنت بها جارة القمر فى مسرحية الرحبانية العظيمة «الشخص» التى خرجت للنور عام 1968 الأغنية قذيفة موجهة للطغاة على مختلف أنواعهم ومشاربهم لكى يرجعوا عن غيهم وظلمهم قبل فوات الأوان، قبل أن يستيقظ النيام ويثوروا لحريتهم السليبة ويدمروا ويطيحوا بكل المكتسبات الإنسانية.
 
تبدأ الأغنية بصرخة الفتاة المظلومة أنها العصفورة التى تبحث عن نور الشمس وأنها الزهرة التى تحيا على الحرية، وهى الوردة التى تحيا على ينابيع المياه التى ترعرعت وتربت على سفوح الجبال، تؤكد الفيروزة أنها مكتوبة فى كل مكان، مكتوبة على درجات البيوت كما أنها مكتوبة على جسور المياه فى كل الحقول حيث تزهو الحرية، بعد أن تعرف فتاتنا الطغاة بحقيقتها توجه لهم دعوة ممتلئة قوة أن ينيروا الطريق للناس بقنديل مشع مبهر هو قنديل المحبة الذى تشبهه بالمنارة التى ترشد السفن كى لا تضل طريقها حيث إنه فى غيبة هذا القنديل المضىء يضيع منها طريق المنائر الهادية لها بل وينمحى «الزيح» ذاته وهو خط الأفق فى كناية عن من يفقد طريقه ويتوه منه الطريق إلى الأبد، وتحذر من بيده أمور الحكم أنه إذا حدث هذا فسيقوم المظلومون الذين اسودت جلودهم من طول التعرض لهواء البحور وشمسها القاسية ويغرقون المراكب والبحور ذاتها لا تكتفى عصفورة الشمس بهذا التحذير القوى بل تعقبه بتحذير أكثر وضوحاً ومباشرةً موجه لكل حاكم سيظن أن شعبه خاضع له وخانع إلى الأبد أن يسارع بإضاءة قنديل المحبة على بيوت الناس قبل أن تذبل الورود وتتسع مساحة الأرض اليابسة القاحلة المليئة بالحقد والكراهية، وتؤكد زهرة الحرية للطغاة أن الشعوب التى يظنونها نائمة ستنتفض من نومها عندئذ فى ثورة عارمة لتكسر أبواب حبوسها وتترك نومها للأبد. تعود الفتاة المظلومة لقضيتها الشخصية لتخبر ظالميها أن شمس الحرية قد أشرقت على العالم أو ما تسميه بالسهل الكبير وأن العصافير تحلق فى سماء الله الواسعة حتى لكأن أجنحة هذه العصافير هى التى تطير بقبة السماء، وتناشدهم عصفورتنا فى النهاية أن يتركوها لتطير فى سماء الحرية الرحبة لتنهى الأغنية القذيفة بأن تذكرهم مرة أخرى بأنها عصفورة الشمس وزهرة الحرية.
 
أنا عصفورة الشمس.. أنا زهرة الحرية
 
أنا وردة المسافى.. مَربَى الحفافى
 
مكتوبة عا دراج.. مكتوبة عا جسورة المية
 
أنا زهرة الحرية.. أنا عصفورة الشمس
 
ضووا قنديل المحبة قبل هبوب الريح
 
قبل المناير ما تضيع وينمَّحى الريح
 
واللى مسودين عا هوا البحور
 
يغرقوا المراكب يغرقوا البحور
 
ضووا قنديل المحبة على بيوت الناس
 
قبل ما ينهد الورد ويوسع اليباس
 
واللى على الأبواب يطلعوا من النوم
 
يكسروا الأبواب ويتهبط النوم
 
وطلع الضو على السهل الكبير
 
وطارت السما عا جناح العصافير
 
اتركونى.. اتركونى.. اتركونى
 
خلينى أطير
 
أنا عصفورة الشمس
 
 طريق النحل
 
أغنية رقيقة أبدعها الرحبانيان الكبار فى سياق المسرحية الرائعة «ناطورة المفاتيح» ، تناول الرحبانيان من جديد فى هذه الأغنية فكرة أن يكون الكائن حراً طليقاً يعلو ويسمو على أعلى القباب والقصور ولا تحده حدود أو مسافات، وثَمَّنا قيمة هذه الحرية مهما صغر هذا الكائن أو تدنت مرتبته، تأمل الرحبانيان النحل وهو يطير سامقاً فوق السحب العالية مستهيناً بالقصور الشامخة فخوراً بحريته التى وهبها له خالق الأكوان المبدع ساخراً من تدنى الكثير من البشر الذين تكالبوا على أطماع الحياة وتركوا أعظم المنح وهى الحرية. مزج الرحبانية هذه الفكرة بنعومة فائقة فى قصة حب صغيرة لفتاة تتذكر أوقاتها الحلوة مع حبيبها وتنقلنا من هذه الذكريات لتحدثنا عن الحرية التى تعشقها مخلوقات الله بفطرتها، أبدع الرحبانيان أيضاً فى لحن هذه الأغنية البسيط الذى صيغ بأقل الآلات الموسيقية التى ساندت عن بعد فى الخلفية صوت الآلة الربانية المبدعة فيروز التى طوعت صوتها لأداء اللحن فى بساطة وتمكن مذهلين بلغت بهما قمة الإبداع.
 
تبدأ الأغنية بجملة موسيقية رقيقة لآلة البيانو تبدأ بعدها الفيروزة فى الغناء الهامس لتذكر حبيبها بأيامهما السابقة «وقد تكون المقبلة حسبما تأمل» عندما كانا يقفان على حدود السهل بينما يرتسم على خط السماء الزرقاء طريق منتظم تصنعه أسراب النحل فى طريقها لارتشاف رحيق الأزهار ثم العودة لخلاياها فى نظام صارم لا ينكسر، تقاطع شدو فيروز جملة إيقاعية راقصة ثم تستطرد فى السرد فتخبر حبيبها أنها كانت متكئة على بابها فى الصباح المبكر عندما مرت أمامها نحلة ذهبت لتجنى الغلة من رحيق زهور الغابة فى مشاوير متكررة وتصدر أصوات الطنين الذى يبدو حزيناً لمن لا يعرف حقيقته الفرحة بالحرية، وتخبره أن هذا الطنين شق سكوت الظهيرة وكسر تأملاتها وحنينها له، هذه النحلة ذكرتها بأيامها مع حبيبها الذى أزمع هجرها فجعلتها تستحلفه فى رقة شديدة بأيامهما معاً عندما كانا يرقبان طريق النحل وتطالبه ألا ينساها أو ينسى «طريق النحل» الذى كررت ذكره ثلاث مرات وتلاعبت بصوتها المبهر كى تذكره به.
 
بعد فاصل للأورج مع الوتريات تستمر الفيروزة فى التأمل فى طريق النحل الذى يطير فوق الضوء المكسور ويرسم دوائر فى الهواء، تخبرنا الفيروزة، أو بالأحرى الرحبانيان، أن هذه ليست دوائر أو خطوطا عشوائية بل سطور تُقرأ لاستخلاص العبر لأن هذه الكائنات البسيطة هى فى حقيقة الأمر أعظم من القصور وساكنيها حيث إنها تتمتع بشىء أسمى من عظمة هذه القصور وهو الحرية التى تجعلها تحلق عالياً فوق قباب هذه القصور الشاهقة لترسم سطورها وتشق طريقها فى سماء الله الواسعة متمتعة بالحرية والانطلاق.
 
تختم جارة القمر هذه الأهزوجة الجميلة بإعادة مناجاة حبيبها أن يذكرها ويذكر طريق النحل إذا فكر فى هجرها أو نسيانها لتتركنا مع أفكارنا وتأملاتنا حول النحل وحريته التى تستهين وتعلو على القصور فنَعجَب لمن صاغ هذه الأهزوجة ونُعجَب به.
 
أنت وأنا ياما نبقى.. نوقف على حدود السهل
 
وعلى خط السما الزرقا.. مرسومة طريق النحل
 
أنا ومتكية عا بابى.. مرقت نحلة بكير
 
غلت بزهور الغابة..وصارت تعمل مشاوير
 
وتعِنّ العنين.. حزين ومش حزين
 
وبسكوت الضهرية يتكسر الحنين
 
إذا راح تهجرنى حبيبى
 
وراح تنسانى يا حبيبى
 
ضل أتذكرنى وأتذكر طريق النحل.