الخميس 1 مايو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

ميس الريم..والحنين للطفولة والصبـا

ميس الريم..والحنين للطفولة والصبـا
ميس الريم..والحنين للطفولة والصبـا


اليوتوبيا، أو المدينة الفاضلة التى طالما حلم بها الأدباء والمفكرون وتغنى بها الشعراء والمغنون، حيث تحكم العدالة ومن قبلها وفوقها المحبة والرحمة، وحيث يعود الإنسان لفطرته الأولى النقية كما خلقه الله بعيداً عن الخبث والحقد والدنس. تلك المدينة الفاضلة التى يسكنها أجمل مخلوقات الله وأرقاها فى صورتها الأولى كانت دائماً حلماً للأخوين عاصى ومنصور رحبانى، وكانت هدفاً لمشروعهما الحضارى الجميل الذى امتد عبر سنوات إبداعهما والذى قدمته جارة القمر فى أبهى الصور وأكثرها إبداعاً. حلم الرحبانيين بلبنان الطوباوى النقى، بلد الخير والجمال والطبيعة المعطاءة الذى يسكنه أهل الضياع الخيرة الطيبون ويعمره أبناؤه المخلصون.
 
وعندما اصطدما بواقع الإنسان الذى لوثته الحياة وصراعاتها والشر والخبث والقبح، هربا إلى سنى الطفولة والصبا بما تمثله من نقاء وصفاء وصاحا بهذه السنين أن ارجعى لنا واتركى زماننا ينسانا فى تلك الحقب السحرية عَلَّنا نبقى فيها ولا نكبر أبداً فنظل فى هذا النقاء السرمدى.
 
∎ يا سنينى اللى رحتى ارجعيلى
 
أغنية من العصر الذهبى لفيروز والرحابنة فى منتصف السبعينيات، عندما بلغ صوت فيروز قمة النضج والحرفية فى آن واحد، قبل أن يبدأ منحنى قوة الصوت فى الهبوط الطفيف التدريجى الذى بدأ فى الثمانينيات من القرن الماضىئليفسح المجال لمساحات أكبر من الحرفية مع بقاء عذوبة الصوت كالنبيذ المعتق على مر السنين.
 
تعبر هذه الأغنية التى غنتها فيروزتنا فى مسرحية (ميس الريم) عام 1975 عن فكرة الحنين إلى الطفولة والصبا وهى فكرة وخط فلسفى يتضحان بمنتهى القوة فى أعمال متعددة لعاصى ومنصور كتعبير عن حنين لحقبة ملؤها البراءة، لا زيف فيها ولا خداع. يحن فيها الإنسان إلى براءته الأولى، إلى ضمير غضٍ أخضر لم يلوثه الكذب والخبث، ويهفو قلبه إلى دفقات أول حب طاهر نقى طرق باب قلبه البكر غض الإهاب. ظل ملمح الحنين لأيام البراءة الأولى هاجساً قوياً ومطلباً بعيد المنال ما فتئ الرحبانيان فى العدو وراءه رغم علمهما أنهما يطلبان المحال وأنهما يعدوان وراء خيوط دخان لا يمكن أن تدرك أو تُنال. وجاءت هذه الأغنية الرائعة لتؤكد هذا الملمح الذى اتضح فى أعمال سابقة لهذا الثلاثى المبدع كأغنيتى «طيرى يا طيارة» و«يادارة دورى فينا» و«قال يا بيتاً لنا».
 
تبدأ الأغنية بحوار ناعم بين جارة القمر والجيتار فى تناغم رقيق عندما تتذكر الفيروزة كيف كانت تتلاقى مع حبيبها بالعشية ويجلسان على الجسر العتيق ويلفهما الضباب النازل على السهل ليخفيهما عن الأنظار ليمحو هذا الضباب المدى والطريق. وفى استرسال عذب تتذكر فتاتنا أنه لم يكن ثمة من يعلم مكانهما غير السماء وورق الأشجار المتساقطة فى شهر تشرين لتعلن قرب دخول الشتاء. وتتنهد لتحكى لنا كيف كان يقول لها ويؤكد لها أنه يحبها ليهرب بهما وبحبهما الغيم الحزين.
 
وفى نقلة مفاجئة تعود فتاتنا إلى واقعها لتصيح فى قوة عبر عنها تماماً اللحن المتمكن والمقتدر للرحابنة العظام لتستصرخ سنينها التى راحت لكى تعود لها ولو لمرة واحدة (شى مرة) لكى تنساها على باب الطفولة حتى تعود لتركض فى شمس الطرقات. ويشتد بها الحنين فتستصرخ سنينها التى مضت أن تعود لترد لها ضحكات (اللى راحوا) التى ما زال صوتها يدوى فى سمعها وكأن هذى الضحكات مازالت (بعدا = بعدها) فى زوايا الساحات.
 
ثم تعود فتاتنا للذكريات فى نفس اللحن الرومانسى الرقيق وتخبر حبيبها الغائب كيف حكى عنها الجميع عندما انتظرته (نطرت) ولم يجئ وصار المطر (الشتى) يبللها وهى مازالت منتظرة حتى جاء الصيف وحبيبها لم يحضر بعد. وتنتفض فتاتنا ثانية لتستيقظ على قسوة الحاضر ومرارته المليئة بالغدر والخيانة لتنادى سنينها التى راحت لكى تعود وتعيد لها أيام البراءة والجمال.
 
كنا نتلاقى من عشية.. نقعد على الجسر العتيق
وتنزل على السهل الضبابة تمحى المدى وتمحى الطريق
 
 
ما حدا عارف بمطرحنا.. غير السما وورق تشرين
 
ويقل لى باحبك أنا باحبك.. ويهرب فينا الغيم الحزين
 
ياسنينى اللى رِحتى ارجعيلى .. ارجعيلى شى مرة ارجعيلى
 
وانسينى عا باب الطفولة.. تا أركض بشمس الطرقات
 
يا سنينى اللى رحتى ارجعيلى .. ارجعيلى شى مرة ارجعيلى
 
وردى لى ضحكات اللى راحوا...... اللى بعدها بزوايا الساحات
 
بتذكر شو حكيوا عليىِ .. لما نطرت وانت ماجيت
 
وصار الشتى ينزل عليىِ وإجا الصيف وإنت ما جيت
 
ياسنينى اللى رحتى ارجعيلى ..
 
طيرى يا طيارة
 
هى أغنية جميلة من فيلم بنت الحارس، وهو ثانى الأفلام الثلاثة التى قدمها فيروز والرحبانية فى منتصف الستينيات من القرن العشرين (مع فيلمى بياع الخواتم وسفر برلك). الأغنية تمثل بوضوح شديد خط الحنين إلى الطفولة وبراءتها للهروب من زيف الحاضر وقسوته وكذب وتلون ناسه الذى أكد عليه الرحبانيان العظام طيلة مسيرتهما الفنية.
 
تبدأ الأغنية بلحن سريع بهيج أشبه بألحان المواسم الشعبية والموالد التى يلهو فيها الصغار بألعابهم المختلفة. ونسمع الفيروزة وهى تحتفل مع الصغار بتطير طائرتهم الورقية التى تتدلى خيطانها وترفرف فى الهواء، فيفرح الأولاد الصغار وتتمنى فتاتنا أن تعود بنتاً صغيرة تلعب فوق سطح الجيران لينساها الزمان هناك فلا تكبر وتعيش فى براءة طفولتها إلى الأبد على هذا السطح الجميل. تحدث جارة القمر الطيارة وتطلب منها أن تعلو فوق السطوح البعيدة محمولة على النسمات الخجولة لأن الأولاد عندما أخذوها لتلهو معهم وسمعت ضحكاتهم البريئة ورددت معهم أغانى الزمان الجميل قد ردوا لها طفولتها بكل ذكرياتها وأعماقها حتى لكأنها ترى من جديد كتبها ومدرستها وعمرها الماضى كله بكل عبقه الفواح.
 
تعود الفيروزة لتسائلنا ماذا كان سيحدث لو كان فى استطاعتنا أن نهرب ونطير مع هذه الطائرات الورقية الطائرة لنختبئ فى طيات الماضى الجميل ولا نكبر إلا بعد مرور العديد من الأيام بعد أن نكون قد ارتوينا من نبع طفولتنا العذب. وتختم الأنشودة بأن تطلب من أشجار الرمان أن تزهر لكى تميل أزهارها الجميلة فى البساتين تمهيداً لطرح ثمارها الشهية لكى يأكلها كل صغار الأرض ويتسلوا بها فيحلو زمانهم وهى معهم عندما ينساها زمانها على سطح الجيران السحرى الجميل.
 
طيرى يا طيارة طيرى يا ورق وخيطان
 
بَدى أرجع بنت صغيرة على سطح الجيران
 
وينسانى الزمان على سطح الجيران
 
عَلّىِ فوق سطوح بِعاد عا النسمة الخجولة
 
أخدونى معهم الإولاد ورَدوا لى الطفولة
 
ضحكات الصبيان وغنانى زمان
 
ردت لى كتبى ومدرستى والعمر اللى كان
 
وينسانى الزمان على سطح الجيران
 
طيرى يا طيارة طيرى
 
.....................
 
لو فينا نهرب ونطير مع ها الورق الطاير
 
تا نكبر بعد بكير شو صاير شو صاير ؟
 
ويازهر الرمان ميل بها البستان
 
ئتا يتسلوا زغار الأرض ويحلو الزمان
 
وينسانى الزمان على سطح الجيران
 
طيرى ياطيارة طيرى