الأحد 29 سبتمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

26 أسرة تنتظر الموت تحت الأنقـاض فى روض الفرج

26 أسرة تنتظر الموت تحت الأنقـاض فى روض الفرج
26 أسرة تنتظر الموت تحت الأنقـاض فى روض الفرج


شارع وابور الطحين بروض الفرج، عنوان لعمارة آيلة للسقوط، وهو أيضا قصة لبشر ذاقوا مرارة وذل الإهمال فقرروا أن يكتبوا شهادة وفاتهم بأيديهم، البداية عندما أصدر الحى قرار إزالة للعقار للخطورة الداهمة، وقرر نقل ست وعشرين أسرة من ساكنى العقار إلى خيمة بمركز شباب جزيرة بدران، وهناك كانت الحياة غير آدمية تقبلها السكان على أمل تنفيذ وعود رئيس حى روض الفرج بتسليمهم شققاً بديلة خلال أيام، طال الانتظار وزادت المعاناة، ولم ينفذ رئيس الحى وعده، كما لم يستطع السكان الاستمرار فى العراء.
 
بدأت كل أسرة تبحث لها عن قريب أو صديق يرأف لحالها ويستضيفها عنده لمدة قد تطول أو تقصر، عدا ست أسر لا ملجأ لهم إلا الله، قرروا العودة وأطفالهم إلى منزلهم مرة أخرى قبل إزالته، بل والأدهى أنهم قد كتبوا على أنفسهم إقرارا بتحملهم وحدهم مسئولية القرار، كنت قد ذهبت لزيارتهم فى منزلهم المعرض للانهيار بين لحظة أو أخرى وبداخلى تعجب كبير وتساؤل هل يدفع العوز والحاجة الإنسان إلى أن يوافق وبخط يده أن يلقى حتفه تحت الأنقاض، لكن تعجبى تحول بعد زيارتهم إلى إعجاب بقوة إيمانهم وحسن ظنهم بالله.
 
∎ مش عايزين نمشى
 
لايمكن أن تخط قدماك مدخل العمارة دون أن ينقبض قلبك، فالمدخل متهالك بصورة كبيرة، والجدران حدث بها نوع من الإلتواء والبروز إلى جانب الشقوق العميقة التى علمت بعدها أن أحدها يبدأ من المدخل ولا ينتهى سوى فى أعلى سطح البناية، السكان وضعوا أعمدة من الخشب فى المدخل، سألت عن أسباب ذلك، فجاء تنى الإجابة من عادل شوقى الذى يسكن الدور الرابع مع زوجته وأطفاله، بأن السكان قرروا وضع هذه العمدان الخشبية وتثبيتها بالجبس لأن فى زحزحتها عن مكانها مؤشراً لهم، وبينما يرينى عادل آثار الزمن على مدخل المنزل وعلى المحلات يتعالى صوت سيدات المنزل بقول «مش عايزين نمشى عايزينهم يدونا أمر تنكيس وننكس» طالبتهم بالهدوء ووعدتهم بأن أزورهم داخل الشقق وأسمع مشاكلهن كل على حدة، وأثناء صعودى فسر لى عادل أسباب تمسك بعض السكان بالبقاء فى المنزل حتى لو على حساب حياتهم حيث يقول: السكان لديهم تخوف بأن يتم تسكينهم فى أماكن بعيدة، وأغلب الناس هنا بسيطة تعيش على الصدقات من الجوامع المحيطة ومن أهل الخير فى المنطقة، لو جاع أحدهم أو مرض يرسل طفله للبقالة أو الصيدلية ويدفع حين ميسرة، لكن انتقالهم إلى أماكن جديدة لا يعرفهم فيها أحد سوف يفقدهم كل هذه الامتيازات، لكن المنزل به خلل كبير، والمشكلة كما هى فى الدور الأرضى الذى يعد هو أساس البيت هى أيضا فى الطابقين الخامس والسادس حيث إن بهما ميلاً كبيراً، فالمنزل سيتيناتى المنشأ، ومبنى دون عمدان مسلح، لكن الدور الرابع تم بناؤه سنة 27ثم توالى بناء الخامس والسادس، وللعلم فإن هذين الطابقين صدر لهما قرار إزالة بعد زلزال 29حيث تأثر المنزل بشدة، وبعد المعاينة جاء قرار الإزالة لهما بجانب تنكيس العقار، وهو مالم يحدث، حتى التنكيس لم يتم بالشكل السليم، واقتصر فقط على تجديد دورات المياه.
 
∎ تجربة مريرة
 
فى الطابق الأول سيدة مسنة تسكن بمفردها، بكاؤها كان أكثر من حديثها، قضت فى المنزل ثلاثين عاما، لذا فإزالته بالنسبة لها هدم لسنوات عمرها الماضية، يقينها أن المنزل لا يحتاج إلا ترميماً ويصبح «زى الفل» على حد تعبيرها، فى ظنها أن مسألة سقوط المنزل من عدمه أمر إلهى لا دخل لبشر فيه سواء من داخل الحى أو من خارجه، حجتها فى ذلك ما شاهدته فى التليفزيون عندما قالت إحدى ساكنات عمارة فيصل المنهارة إن مهندس الحى قد عاينها وقال لهم أن أمامها عشر سنوات على الأقل لتسقط، فانهارت بعد مغادرته بثوان، تجربتها مريرة فى الأيام التى غادرت فيها المنزل إلى خيمة الإيواء بمركز شباب جزيرة بدران، لذلك كانت أولى الساكنات التى تركته وعادت لتجلس داخل شقتها حيث لا ماء ولا كهرباء بعد أن قطعها الحى عن المنزل تمهيدا لهدمه، ولسان حالها يقول لو قررتم هدمه فافعلوا وأنا بداخله، فقد عشت فيه وسأنهى حياتى تحته، تقول جلست فى العراء أكثر من خمسة عشر يوما، بعدما جاءت الشرطة إلى المنزل وأخلتنا منه بطريقة مهينة، ذقت فى تلك الأيام صنوف العذاب، ففضلا عن برودة الجو وصعوبة النوم فى الخلاء، فقد كانت دورات المياه بعيدة تماما عن محل إقامتنا، مما صعب الأمر على المسنين أمثالى وعلى الأطفال، وتكمل حياتى كلها عشتها هنا، أختى تسكن هنا فى الدور الرابع أسأل عليها وتسأل هى بدورها على، وقد أصبت بجلطة مفاجئة وأنا بمفردى ولولا وجودى وسط أهلى وجيرانى لكنت فقدت حياتى، فلو تهدم علينا فنحن راضون بحكم الله، فستكون تلك هى مشيئته، رغم أننى أعلم جيدا أنه لن يتهدم فلن تهون عليه عشرتنا كما لم تهن عشرته علينا، وكل طلبى أن يعطينا الحى أمراً بالتنكيس ونحن سنتكفل بتنكيسه، سألتها وماذا لو استحال ذلك وجاءت المعدات لهدمه قالت لن أخرج من منزلى مرة أخرى فلن ينظر إلينا أحد وسنعيش فى الشارع بقية حياتنا لذلك سأقول لهم أهدموه وأنا بداخله.
 
∎ خوف متجدد
 
فى الدور الثانى، حيث شقة الساكن محمود أبوالفضل، قابلتنى زوجته أم حبيبة وحنين ومحمد، تحدثنى وفى خلفيتها جدار متهالك جدا يوشك على السقوط، وعندما سألتها عنه لم تجب، فقد أجابت بالنيابة عنها جارتها التى تسكن فوقها «ده من الحمام عندى وأنا وعدتها هصلح السباكة وهى هتمحر»، عدت مرة أخرى لأم حنين التى قالت، خائفة على أطفالى من سقوط البيت عليهم، لا أستطيع أن أخلد للنوم ففى كل ليلة يتجدد الخوف من الانهيار، لكن مع ذلك لن أجلس بهم فى الشارع مرة أخرى، فأطفالى قد أصابهم المرض من الفترة التى جلستها فى الشارع بعد أن أخلونا من المنزل، وزوجى على باب الله ولو كان معنا أموال لكنا استأجرنا مكانا آخر وما كنا انتظرنا قدوم الموت إلينا فى أى وقت.
 
∎ سنموت مستورين
 
فى الدور الثالث يسكن الشيخ حسن أو أبومحمد كما يلقبه جيرانه، يبلغ من العمر 63 عاما، يقول أنا رجل على المعاش، ولدى أربعة أبناء معاشى يكفيهم بالكاد، فأين أذهب بهم، وقد حاربت فى 73 ولم أنتظر من بلدى التى حاربت من أجلها أن تقسو على بهذا الشكل، فهل جزائى أن يلقى بى فى الشارع أنا وأولادى، فلا هم يسمحون لنا بالتنكيس ولا يوفرون لنا البديل، فأين تذهب كل هذه الأسر، وهل يعقل أن يُشرد كل هؤلاء فى سبيل أن يستفيد صاحب المنزل الذى سارع فى إجراءات الهدم دون النظر إلينا، وتكمل زوجته: نريد لجنة هندسية تعاين المنزل وسنرضى بحكمها ونرحل بعد أن يوفروا لنا البديل، فجلوسنا داخل خيمة بمركز الشباب كان تجربة غير آدمية بالمرة، فالصغار أصابهم التهاب رئوى بسبب البرد، كما أن جلوس 26 أسرة ونومهم كرجال وسيدات فى مكان واحد أمر صعب، والأصعب أن الخيمة أشبه بصوان مكشوف يمكن للموجودين داخل مركز الشباب كشف كل من فيه، لذا فإن الشباب كانوا يقفزون إلى داخل المركز فى المساء ليشاهدوا البنات والسيدات وهن نائمات، وابنتى «عروسة على وش جواز» أخاف عليها وعلى إخوتها من نوم الشارع، وبما أننا لا حيلة لنا أنا وزوجى المسن عدنا نحتمى بجدران منزلنا ليسترنا، ولو قدر الله ومتنا تحت أنقاضه على الأقل سنموت مستورين.
 
∎ تواطؤ من الحى
 
«الناس مارجعتش هنا من شوية رجعوا بعد يأس» هذه هى الكلمات الأولى التى نطق بها السيد عطا مدرس الثانوى الذى يسكن الدور الثالث أيضا، ابنه فى الصف الثالث الثانوى لم يستطع المذاكرة طوال فترة الإيواء، ففى تلك الفترة لم يذهب أحد من أبناء المنزل إلى مدرسته أو عمله، فلا يوجد ملابس أو كتب أو أكل نظيف، فجميع الجيران أرزقية وميزانيتهم لا تتحمل شراء ثلاث وجبات من السوق، حتى المياه فلبعد المسافة عن دورات المياه كان كبار السن يتيممون لقضاء صلواتهم، ويكمل سيد قائلا: دخلت لرئيس الحى أكثر من عشر مرات، ولا أجد منه سوى مسكنات، فإخلاء المنزل تم يوم 5 أكتوبر 2013 ووعدنا بعدها رئيس الحى أن نجلس لأيام فى الإيواء، وسنستلم شققا جديدة قبل العيد، لكن العيد مر دون حتى اعتذار منه، لكننى اكتشفت أن مسألة استلام شقق جديدة ليس بالسهولة التى صورها لنا رئيس الحى، فالعاملون بالحى أكدوا لى أن استلام الشقق يلزمه إجراءات طويلة، كما أنه لا يمكن أن يتم قبل هدم المنزل تماما، والأدهى أن أمامنا طابوراً طويلا من المستحقين لا يمكن تخطيه، فجلوسنا على قوائم الانتظار قد يطول لسنوات، ويؤكد السيد عطا أنه يشعر بتواطؤ داخل الحى لصالح صاحب العقار، معللا ذلك بأن المالك تمكن من استصدار رخصة الهدم رغم تقدمنا بتظلم، مشيرا أن المادة 90 والمادة 91 من القانون تلزم رئيس الحى بوقف إجراءات الإزالة لحين النظر فى الطعن المقدم من قبلنا، ولا أقول سوى أن ذنبنا فى رقبة كل هؤلاء رغم أنهم أخلوا مسئوليتهم على الورق، لكن أمام الله لا يوجد إخلاء للمسئولية وسيحاسب الجميع.
 
∎ تدمير للحياة
 
فى الدور الرابع قابلتنى فتاة فى الثلاثين من عمرها تدعى أم شاهندة قائلة «لو البيت اتهد مستقبل بنتى هيضيع وهتطلق للمرة الثالثة» لم أفهم ما تقصده فى البداية خصوصا أنها قالت إنها ليست من سكان المنزل حاليا، لكننى استوضحت الأمر فيما بعد، فتلك الفتاة متزوجة من شخص لا يرغب فى بقاء ابنتها من زوجها الأول معهم فى نفس المنزل، وبما أن والد الصغيرة لا يرغب أيضا فى تحمل مسئوليتها جلست مع جدتها فى المنزل المتهالك، لتأتى والدتها من حين لآخر لرؤيتها، ولو انهار البيت ستضطر لضم ابنتها لتعيش معها خصوصا أن مدرستها فى روض الفرج، وهو ما لن يرضى زوجها بالقطع، كما لم يرض سابقه الذى طلقها لنفس السبب، فانهيار البيت يعنى دمار حياتها على حد قولها، وطوال حديثها تحاول التأكيد على أن المنزل بحالة جيدة، فتقول: منذ خمسة وعشرين عاما ونحن نسمع أن المنزل سينهار، ولم يحدث، حتى بعد إخلائه حدث زلزالان لو كان متهالكا كان سيهدم، مشيرة إلى أن ما حدث فى المدخل كان بسبب أن المحل تم تأجيره لبائع صابون وكلور أدت تفاعلاته إلى سقوط قوالب من الطوب وبالتالى تغير ملامح المدخل.
 
∎ شاهندة وسيف
 
«علشان خاطر شاهندة وسيف» هكذا دخلت والدة الفتاة وجدة شاهندة فى الحوار، حيث تقول: كل يوم أصلى وأدعو الله أن يرفق بحال شاهندة وسيف، وسيف بالمناسبة هو أحد أطفال المنزل المنكوب، ظروفه تتشابه كثيرا مع ظروف شاهندة، فوالده متوفى ووالدته لا تريده وتركته لجدته لترعاه، وتكمل جدة شاهندة قائلة، نحن مثل السمك الذى لا يستطيع العيش بعيدا عن البحر، وأذكر أنه بينما كانت قوات الشرطة تقوم بإخلائنا من المنزل كنت أبكى وأقبل جدرانه وأتحسسها كأنى سأفقد عزيزاً، كما أن زوجى متوفى منذ ثلاثة عشر عاما، وهناك من يحن على كل شهر من أهل الخير، كما أن جامع الحى يعطينى أموالا كل شهر، فأموال الصدقات هى دخلى الوحيد، ولو فرضنا أنهم صدقوا فى وعودهم ومنحونى شقة فستكون فى منطقة بعيدة وجديدة لا يعرفنى فيها أحد، فمن أين أعيش؟
 
∎ الخيار بين الموت والعراء
 
فى الدور الخامس تجلس سيدة مسنة متشحة بالسواد وعلى قدمها تحمل طفلا حديث الولادة، ظنى أنه أصغر روح فى هذا المنزل ممكن أن تزهق لو حدث أن انهار، انهالت دموعها قبل أى حديث، ثم قالت لو لم أكن خائفة على رجال المنزل لقلت لهم أن يقوموا بتنكيسه غدا، لكننى سمعت أن تنكيسه بدون إذن الحى ستكون عقوبته السجن ثلاث سنوات، فهل يعقل أن يتم تخييرنا بين الموت تحت الأنقاض أو الجلوس فى العراء، فعدم سماحهم لنا بالتنكيس يعنى الموت فى أى لحظة، سألتها هل أتعبك الجلوس فى العراء داخل الخيمة؟، قالت لم أذهب من الأساس إلى الخيمة، ظننت لجزء من الثانية أنها ستقول أنها ذهبت لجارة أو صديقة لكنها فاجأتنى بعد ما أردفت قائلة: جلست طيلة عشروين يوما على كرسى أمام مدخل المنزل، لم أذهب لمعارفى لأننى لا أحب أن أثقل على أحد، كما لم أذهب للإيواء مع باقى السكان وظللت كل تلك المدة جالسة ونائمة على كرسى خشبى قبل أن أقرر أن أصعد إلى شقتى وأبصم على تعهد بأننى أنا المسئولة إذا ماحدث للمنزل مكروه وسقط فوق رؤوسنا.
 
∎ انهياره كارثة
 
ولضمان الحيدة والنزاهة توجهت إلى محامى مالك العقار أحمد عبدالعاطى، الذى قال: العقار صدر له قرار إزالة بعد أن استغاث السكان بعد مشاهدتهم لشقوق وتصدعات داخل العقار، حيث خرجت لجنة مكونة من رئيس الحى ونائب مدير الأمن وصدر قرار بالإزالة، علما بأن صاحب العقار طالب السكان بتنكيس العقار منذ فترة إلا أنهم رفضوا، مشددا على أن انهيار العقار سيحدث كارثة ليس فقط بسبب السكان الرافضين لمغادرته، بل بسبب أنه يقع فى حارة ضيقة من حوارى روض الفرج، وانهياره سوف يؤذى بالقطع المنازل المجاورة له وكل من يتصادف مروره لحظة الانهيار، لذلك أناشد السكان سرعة مغادرته حرصا على حياتهم وحياة جيرانهم.