الإثنين 11 نوفمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

روحانية الأيقونة القبطية

روحانية الأيقونة القبطية
روحانية الأيقونة القبطية


إذا أردنا التحدث عن الحلقة الوسطى التى ربطت بين الفن المصرى القديم والفن الإسلامى بل ربما الحلقة المهمة من سلسلة الفنون التى مرت بها مصر على مر التاريخ فلن نجد خيرا من الفن القبطى الذى يعد مرحلة فنية وحضارية مهمة غنية بالسمات الفنية الخاصة لعل أبرزها فن الأيقونة الذى تُوج به الفن القبطى لما تنطوى عليه من أهمية كبيرة داخل الكنيسة وأيضا لما تتمتع به من سلام وروحانية وأسلوب قصصى دينى وتعليمى.
 
بداية يعتبر الفن القبطى من الفنون التى لها شخصية متميزة، وإن تميز بمقومات فنية خاصة به إلا أنه لم يبرز فجأة إلى الوجود مقطوع الصلة بما سبقه من فنون بل إنه شأن غيره من الفنون ، تأثر بالفنون السابقة والوافدة عليه وذلك نتيجة الصراع الفنى بين الفنون القديمة الأصلية والفنون الدخيلة التى وردت إلى مصر حينها، أى أن الفنون القبطية هى الفنون المصرية القديمة فى مراحلها الأخيرة متأثرة بالفنون اليونانية والرومانية وبالحضارة المسيحية ثم بالفنون الإسلامية.
 
ويُعتبر فن رسم الأيقونة أحد فروع الفن القبطى ويرجع تاريخها إلى القرون الثلاثة الأولى للميلاد، وأصل الكلمة فى اليونانية القديمة هى «إيكون» eiconوتعنى «الصورة المرسومة»، واعتمد فيها الفنان القبطى على عنصر الموضوع كأحد السمات الأساسية لإبراز فنه الذى ارتبط بالدين ارتباطاً شديداً شأنه فى ذلك شأن الفن المصرى القديم. لذلك تمثل الأيقونات فى الفن القبطى عملاً جليلاً له مكانته لما تمثله من طريقة لفهم العقيدة المسيحية.. ولنتعرف أكثر على ملامح موضوعات الأيقونة القبطية المصورة فهى تأتى فى المقام الاول نحو الأيقونات التى تصوِّر ميلاد السيد المسيح، وأيقونات الصَلْب والعشاء الأخير، انتصار السيد المسيح. وأيضاً أيقونات العذراء مريم وهى تحمل السيد المسيح الطفل. كما تنوعت ما بين قصص أنبياء العهد القديم والملائكة مثل أيقونات الملاك ميخائيل ,والكثير من القديسين من مختلف العصور خاصة أيقونة القديس جوارجيوس (مار جريس) بصورته التّقليديّة التى تتصدّر بيوت الكثير من الاقباط والتى يبدو فيها ممتطياً جواده الأبيض ويصارع التنين فيصرعه.
 
ومن هذه الموضوعات يظهر الفن القبطى باعتباره فرعا أصيلا من الفن المصرى القديم. فتذكرنا الأمومة الممثلة فى صورة مريم وطفلها بصورة إيزيس وهى تحمل طفلها «حور» كذلك صورة القديس مار جرجس الذى يقاتل التنين من فوق صهوة جواده تضاهى صورة الإله حور وهو يرشق سهمه فى جسد فرس النهر. كذلك الكثير من زخارف الفن المصرى القديم كاستخدام علامة «عنخ»'' أو مفتاح الحياة، وأيضا رمز السمكة التى كانت رمزا للخصوبة عند المصرى القديم. وأيضا بعد الفتح العربى حدث تبادل بين الفنان القبطى ونظيره المسلم فى الفنون فدخلت على الأيقونة الكتابة العربية مثل «عوض يا رب عبدك». ونقل الفنان القبطى إلى الأيقونة بعض الزخارف الإسلامية مثل شجرة السرو وهى وحدة زخرفية ظهرت فى الفن العثمانى.
 
تطورت موضوعات وفن الأيقونة إلى ثلاث مراحل ،ورغم تداخلها إلا أنها تعطى فكرة عن تطوُّر الفن الخاص بالأيقونة بعدما كانت عناصرها فى بادئ الأمر تستمد من الديانة المصرية القديمة وخليطًا من نماذج إغريقية مصرية تصوِّر الحقائق المسيحية، وأولها مرحلة «الرموز» وفيها استُخدمت الرموز على نطاق واسع فى القرن الرابع الميلادى مثل السيد المسيح فى شكل الراعى الصالح، أو شكل السمكة، أو الحرفين الأولين من اسم السيد المسيح باليونانية «XP» على شكل الصليب، أو غير ذلك من الرموز.. ثم مرحلة «الكتاب المقدس» واستخدم فيها أيقونات تُصوِّر موضوعات من الكتاب المقدس بقصد التعليم وأصبحت الأيقونات حينها لغة عامة يستطيع كل إنسان أن يقرأها.. واخر مرحلة هى «الأيقونات الأخروية» وظهرت عندما اعتنق بعض الفلاسفة المسيحية وانشغلوا بالمجىء الأخير للسيد المسيح، فجاءت الأيقونات فى ذلك الحين للسيد المسيح جالساً على عرشه فى السموات، وأيقونات الشهداء والقديسين مكللين بالمجد، وأيقونات الملائكة... وشهد فن الأيقونة تطورًا كبيرًا فى الفترة ما بين القرنين السابع عشر والثامن عشر، وازداد ارتباطها بالطقوس الدينية.
 
تتميز الأيقونات القبطية بألوانها السخية الصريحة والتى أراد بها الفنان القبطى التعبير عن مفاهيم ورموز معينة، فجاء اللون الأصفر فى الأيقونة كرمز إلى القداسة التى تنبعث من النور الإلهى، واللون الأحمر (أكسيد الحديد) بدرجاته كرمز الى المجد والفداء، واللون الأبيض يرمز الى الطهارة واللون الأزرق يرمز إلى الأبدية التى لا نهاية لها، أما اللون الأسود فيرمز إلى الوجود ويُستخدم دائماً فى تأكيد الأشكال وإبراز التصميم. ولجأ أيضا الفنان إلى استخدام الظل والنور فجاءت خلفية الأيقونة القديمة غالباً قاتمة اللون بينما يكون العنصر البشرى بها باللون الفاتح، وذلك بقصد تحقيق التضاد بين قتامة اللون فى خلفية الأيقونة ونصاعته فى الشخصيات المصورة، ليرمز الفنان إلى أن النور الإلهى إنما هو منبعث من الشخصية المقدسة ذاتها، وليس من الجو المحيط بها والذى على العكس كان مظلماً.. ولذلك لا يجب إضاءة الأيقونة بأضواء خارجية لأنها هى التى من المفترض أن تنير المكان بنورها المقدس. كما رُسمت الأيقونات الأوليَّة منها بطريقتى «الإنكوستيك» و«التمبرا». ولجأ فيها الفنان إلى تذهيب (اللون الذهبى) خلفية الرسم المصور، وكذلك بعض أجزاء منها كهالات القديسين بصفائح ذهبية دقيقة.
 
ومن سمات رسوم الأيقونة أن الوجوه فيها مستديرة وتُحاط بهالة التقديس الذهبية التى أخذت عن الفن الساسانى، أما العيون المصورة مستديرة ومحددة بإطار. ولا يوجد اى تجسيم او إبراز للبعد الثالث للعناصر المرسومة. وتتميز ملامح الشخصيات المصورة فيها بالبساطة والوداعة والتقوى كما رسمت فى وضع المواجهة. وكذلك عدم الاهتمام بالتفاصيل الفنية الدقيقة والتركيز على النواحى الروحية والقيم الدينية أكثر من النواحى الجمالية. 
 
تعددت أساليب تنفيذ الايقونة فجاءت ما بين النقش البارز أو الغائر على بعض اللوحات والأفاريز الحجرية والعاج والعظم، أو بالرسم بالألوان وبالحفر أحيانا على الخشب كذلك على الأعمدة الرخامية والجرانيت فى الكنائس القبطية القديمة التى تزين أيضا جدرانه وشرفاتها بالصور المصنوعة بالفسيفاء، كذلك استخدم الفنانون الأقباط الاقمشة كثيراً لتنفيذ الأيقونات سواء برسمها بالألوان أو بطريقة نسجها. وكثيراً ما تغطى الأيقونات بطبقة من الرقائق المعدنية المطروقة وخاصة الذهب والفضة فى الكنيسة اليونانية أو البيزنطية مع كشف منطقة الوجه والكفين للقديس المُمثل ,وذلك بهدف حماية سطح الأيقونة من العوامل الجوية وملامسة أيدى طالبى البركات.
 
توضع الأيقونات - بصفة عامة - فى الكنائس القبطية أعلى الحائط الخشبى الذى يفصل بين القدس (الهيكل) وباقى الكنيسة أو تعلَّق عليه. وتلعب الأيقونات دورًا مهمًّا أثناء الأعياد والاحتفالات. وتتجلى أهمية الأيقونة فى تفرد الكنائس الشرقية (القبطية والبيزنطية والروم والأرمن) بها كفن أصيل له جذور تاريخية مرتبطة أيضاً بالفن المصرى القديم كما سبقت الإشارة. فنظراً لتركيز الكنيسة الشرقية على الأيقونة وما تضفيه من روح دينية أصبح استعمال فنون تشكيلية أخرى داخل الكنيسة أمراً ثانوياً وغير متاح أحياناً. لذلك فهى كانت دائماً ولا تزال تفخر بتميزها بهذا الفن المقدس وهو ما حفظ للكنيسة الشرقية روحها الأصيلة المتميزة عن الكنائس الأخرى ولا سيما الكاثوليكية التى تحفل بل وأحياناً تعج بجميع أنواع الفنون التشكيلية..