ضحايا السجون الأمريكية

آيات الصبان
هل تحلم بالحياة فى دول ديموقراطية، حيث لا ظلم، لا انتهاك لحريات أو خصوصية، حيث أعلى معدلات حقوق الإنسان وصون كرامته، ما رأيك فى الولايات المتحدة الأمريكية أكبر دول العالم ديموقراطية؟ بالتأكيد ستتمتع بكل ما تمنيته يوما فى موطنك الأصلى ولم تجده، أليس كذلك؟ الحقيقة ليست دائمًا وردية بالقدر الذى نتصوره، على الأقل بالنسبة لستيفن أفيرى.
ولد ستيفن أفيرى فى عام 1962 فى مقاطعة مانيتووك، بولاية ويسكونسن الأمريكية لأبوين أمريكيين من ذوى البشرة البيضاء يدعيان ألان وو دولوريس أفيرى، كانت العائلة تمتلك وتدير ساحة للسيارات المستنقذة والخردة على مساحة 40 فدانًا، المستوى المعيشى والعلمى للعائلة لم يكن على أفضل المستويات وأما المستوى المادى فكان يكفى الأسرة العوز والحاجة، لكن بلا أى رفاهيات تذكر شأنهم شأن كل الأسر الأمريكية من ذوى الدخول المحدودة، العائلة لستيفن أفيرى كانت تمثل كل شىء، مما حفزه لتعلم مهنة أبيه ومساعدته من سن مبكرة، فى ذات الحين التحق بإحدى المدارس المحلية لبطيئى الفهم، ولكن لم يستطع أن يكمل دراسته وتفرغ للعمل مع والده.
تزوج ستيفن فى سن مبكرة جدًا من أم عزباء لديها طفلان وأنجب منها توأم كانا بالنسبة لستيفن أجمل ما جادت به الحياة عليه، لكن للأسف بدايات ستيفن لم تكن دائمًا جيدة نظرًا لتأخره العقلى النسبى (معدلات ذكاء منخفضة وليس تأخرًا عقليًا بالمعنى المفهوم) ومحاولته أن ينال مكانة وسط أقرانه واحترامًا وسط الناس، ما دفعه فى هذه المرحلة المبكرة من حياته لاقتراف أخطاء استغلت ضده بشكل خاطئ وساعدت فى توصيل فكرة خاطئة عنه ظل يدفع ثمنها حتى هذه اللحظة.
أول أخطائه كانت فى عام 1981 حين اتهم بالمشاركة مع صديق فى محاولة سرقة حانة، حكم عليه بالسجن لمدة سنتين إلا أنه تم الإفراج عنه بعد 10 أشهر فقط تحت المراقبة، بعدها فى أواخر عام 1982 اتهم بالقسوة تجاه حيوان، حيث اعترف هو وصديقاه بقتل قط وحرقه، وهو ما أدى إلى سجنه حتى أغسطس 1983، حين سئل ستيفن أفيرى عن هذه الجرائم اعترف بها وقال: كنت صغير السن أعامل بمنتهى القسوة من أقرانى وحاولت أن أجد لنفسى مكانًا بينهم، كانت حياتى قاسية وأردت أن أثبت أنى لست بجبان أو تافه. وأدركت لاحقًا فداحة ما قمت به.
فى مرحلة لاحقة بدأت ابنة عمه فى نشر شائعات عنه وسط البلدة أنه يقوم بالاستمناء خارج منزلها ليلاً وأنها رأته فى محاولة للسخرية منه، إلا أنه تأثر كثيرًا من سخرية الناس منه بسبب ابنة عمة وادعاءاتها الكاذبة فذهب إليها مهددًا إياها بمسدس أن تتوقف عن نشر هذه الشائعات عنه وتم القبض عليه رغم كون المسدس المستخدم فارغًا من الطلقات، إلا أن ابنة عمه صممت على المضى قدمًا فى البلاغ المقدم ضده. أثناء تداول قضية ابنة عمه، حدثت جريمة بشعة بالجوار، امرأة تم الاعتداء عليها واغتصابها أثناء قيامها بممارسة رياضة المشى، رغم كون الضحية قد تخيلت صورة غير مطابقة لصورة أفيرى، ورغم حقيقة أن أفيرى كان يبعد عن المنطقة التى حدثت بها الجريمة أكثر من 40 ميلاً، بشهادة 16 شخصًا، ورغم وجود أدلة كثيرة على انشغاله بالعديد من الأعمال مع أسرته فى نفس وقت ارتكاب الجريمة، قامت إحدى المحققات بزرع فكرة أن الجانى هو ستيفن أفيرى عندما صاحت فى الجميع: « أعتقد أن من فعلها هو ستيفن أفيرى، كنت منتظرة منه هذا الفعل»، وفورًا بدأ المحققون فى توجيه الاتهام لستيفن، بل توجيه الضحية لاختياره من طابور العرض بحجة أن عقلها كان مشوشًا، وحيث إن اختبارات ال دى أن إيه كانت فى مراحلها الأولى فى هذه الفترة لم يستطع ستيفن أن يثبت براءته وأغلق الجميع عيونهم وآذانهم، المحققون رجال الشرطة، القضاة والمحلفون، جميعهم ارتأوا أن ستيفن لا بد وأن يسجن مدى الحياة فى هذه الجريمة وأنه لن يحصل على خروج مبكر مشروط إلا فى حالة اعترافه بالجريمة وإبدائه الندم عليها، وهو ما رفضه وحاربه ستيفن فى معركة لإثبات براءته.
تداول القضية العديد من المحامين، لظروف ستيفن المادية كانوا جميعهم معينين من قبل المحكمة ولم يولوا القضية الاهتمام الذى تستحقه، بل إن بعضهم كان يركز كل جهوده على حث ستيفن على الاعتراف بالجريمة بدلاً من الدفاع عنه أو الإيمان ببراءته.
حكم على ستيفن أفيرى فى هذه الجريمة بالسجن لمدة 32 عامًا، فى فترة سجنه ذاق الأمرّين، تركته زوجته، وتبرأ منه طفلاه، فقد مرحلة كبيرة من شبابه، قاموا بمضايقته فى السجون، تحمل أبواه الكثير من المشقة حتى يتمكنا من رؤيته، وأثناء ذلك فى عام 1995، بعد 10 سنوات من سجن ستيفن، اعترف أحد السجناء بقيامه باغتصاب السيدة التى اتهم باغتصابها ستيفن، واعترف لمأمور السجن برغبته فى تبرئته، بمراجعة السلطات المحلية فى ويسكونسن، رفض المسئولون فتح القضية وقبول الاعتراف واكتفوا بقول أن لديهم الجانى الحقيقة ولا داعى لفتح هذا الموضوع ثانية!
فى عام 2002 بدأ استخدام اختبار الحمض النووى فى إثبات الجرائم يأخذ منحى مختلفًا مع تقدم آليات الاختبار ووصول نتائجه لتأكيدات بنسبة 99 %، وهو ما استدعى إحدى المؤسسات الرجوع إلى بعض الجرائم المحكوم فيها سابقًا والتى لم يكن متاحًا فيها استخدام اختبار الحمض النووى، وقع الاختيار على قضية ستيفن، وتبين أن السجين الذى أراد الاعتراف سابقًا هو بالفعل المجرم الحقيقى، وفور الإعلان عن ذلك تم الإفراج عن ستيفن فى عام 2003 بعد مكوثه 18 عامًا فى السجن سجينًا لجريمة لم يرتكبها.
حازت أخبار براءته الكثير من التغطية الإعلامية وتسليط الضوء، ما دفع العديد من المحامين لإقناعه برفع قضية طلبًا للتعويض على السلطات المحلية ورجال الشرطة والمحققين المتورطين فى قضيته وهؤلاء الذين رفضوا فتح القضية مرة أخرى لاعتراف المتهم الحقيقى، مما كان سيوفر 8 أعوام أخرى من العناء على شخص برىء.
فاز ستيفن بحكم فى عام 2005 بتعويض كبير على هؤلاء الأشخاص النافذين فى الولاية بلغ 36 مليون دولار، ولكونهم مسئولين حكوميين رفضت الحكومة تحمل هذه التعويضات وأرجعتها لأخطائهم الشخصية، ما يعنى أن عليهم أن يتحملوا هذه المبالغ من مدخراتهم وصناديق المعاشات الخاصة بهم، مما كان سيعرضهم للإفلاس وبيع كل ممتلكاتهم، لكن لم يقف هؤلاء صامتين أمام كل هذه المخاطر التى تهددهم، بعد تلفيق جريمة قتل أخرى له تراجع التعويض إلى 400 ألف دولار بموجب حكم من المحكمة فى 2006.
ما حدث بعد ذلك كان أبعد من الخيال، وأصعب من إمكانية تصديقه، فمع اهتمام الإعلام بقضية ستيفن واهتمام العديد من العاملين بالشأن الصحفى به وبعد الحكم بالتعويض بعدة أشهر، تحديدًا فى 31 أكتوبر 2005 اختفت المصورة تريزا هولبرخ بعد زيارة لستيفن والتقاطها لبعض الصور لشاحنته التى عرضها للبيع، اختفاء تريزا هولبرخ سرعان ما أصبح حديث البلدة وبدأ البوليس فى التحقيقات، قام أخوها وصديقها الحميم بتكوين مجموعات بحث عن سيارتها فى المنطقة والتى وجدت فى باحة ال أفيرى للسيارات. فور وصول المحققين وبدء التحقيقات وجدوا بقعًا متناهية الصغر لدماء خلف مقود السيارة وعند تحليله وجد مطابقًا لدم ستيفن إفيرى، كما وجدت بقايا عظام محترقة فى منطقة خلف منزل ستيفن، حيث يقومون بالشواء وتبين أن قطعة العظم الصغيرة المحترقة ترجع كذلك للضحية، كما قامت الشرطة بإخراج ستيفن وعائلته من المنزل لمدة كبيرة بحجة البحث عن أدلة، ولم يسفر البحث عن شىء، بعدها بعدة أيام عاد المحققون مرة ثانية للبحث عن أدلة وهذه المرة وجدوا فى مكان مكشوف للغاية مفتاح شاحنة تريزا هولبرخ الذى تم بالتأكيد زرعه فى الزيارة الثانية، وعليه تم توجيه التهم فورًا لستيفن أفيرى بخطف واغتصاب وقتل وحرق تريزا هولبرخ وتم تقديمه لمحاكمة عاجلة لتعاد الكرة من أول وجديد.
ستيفن لم يكن هذه المرة الضحية الوحيدة لتلفيق الشرطة، فقد وعت الشرطة أن الدماء بالسيارة من الممكن الطعن بها لأن عينات دم ستيفن متوافرة لديهم ومن السهل الحصول عليها وزرعها بالسيارة، كما أن العظام القليلة المتوافرة فى مكان الحرق قد تفيد بأن الجثة حرقت فى مكان آخر ونقلت البقايا بعد الحرق، ولهذا كان لا بد من إيجاد شاهد عيان أو معترف يربط ستيفن بالجريمة، براندن دارسى كان الهدف هذه المرة، ابن أخت ستيفن ذو الـ 16 عامًا ذو الإعاقة الذهنية، منخفض الذكاء وغير القادر على الفهم بسهولة كان وسيلة المحققين فى النيل من ستيفن، تم القبض على براندن ورغم تصوير المحققين للتحقيق الذى تم بدون حضور محامٍ أو حتى والدته، ووضوح أسالبب التخويف والترهيب التى استغل المحققون من خلالها ظروف براندن العقلية ووضوح إجباره وحثه على الاعتراف بالاشتراك بجريمة القتل مع عمه ستيفن ووعده بأن هذا الاعتراف سيتيح له العودة إلى المنزل حيث كان أكبر هاجس لدى براندن وقتها هو حل واجباته المدرسية حتى لا يغضب منه معلمه، وهو ما يلقى الضوء على حالته العقلية، بل وصل الأمر إلى إملاء كيفية القيام بالجريمة عليه وكيف أنهم قيدوا الضحية إلى سرير عمه وذبحوها وهنا نبهه المحقق أنهم قتلوها بالرصاص بطلقة فى الرأس (لأن التحقيقات الأولى كانت تشير إلى ذلك) وهنا عدل براندن من إفادته لتتوافق مع رؤية المحققين وأفاد أنهما أحرقاها بعد ذلك، ونال المحققون غايتهم رغم عدم وجود أى حمض نووى للضحية داخل منزل ستيفن ولا حجرة نومه وفقًا لرواية براندن الملفقة.
حكم على ستيفن وبراندن بالسجن مدى الحياة ومازالا بالسجن حتى الآن رغم وجود العديد من الدلائل على براءتهما، ورغم عدم شمول أى أشخاص آخرين فى التحقيق، ما يعنى إمكانية فرار الجانى الحقيقى بفعلته، ورغم وجود العديد من الأدلة لمصلحتهما لم ينظر إليها تمامًا، بعدها قامت جماعات الدعم الحقوقى بتنظيم الكثير من الوقفات مطالبين بمحاكمة عادلة للاثنين، قدمت الكثير من الاستئنافات من العديد من المحامين، اهتمت وسائل الإعلام بتغطية القضية، عرضت القضية فى برنامج وثائقى نال اهتمام أمريكا والعالم أجمع، من خلال الفيلم الوثائقى ظهرت التحقيقات والأدلة الجنائية ورأى الجميع البراءة التى لم يرها القضاء الأمريكى واضحة وضوح الشمس، ولكن لم يفد كل ذلك فى إثبات هذه البراءة، ما زالت القضية تحظى باهتمام إعلامى كبير حتى الساعة وسينظر فى آخر استئناف لها بعد اشتراك المحامية الشهيرة كاثلين زيلنر فى فريق الدفاع عنه، كاثرين معروفة بمناصرة المظلومين ورد الحقوق، ومن المحاميات النابهات شديدات التدقيق ممن لا يقبلن قضية مع شك واحد بالمائة فى براءة المتهم، براندون فقد مراهقته وشبابه خلف القضبان شأنه شأن عمه ستيفن، منذ 2005 حتى اليوم حبست كل أحلامه ولم يستطع حل واجباته المدرسية كما وعد مدرسه ذلك اليوم المشئوم.