الأحد 23 يونيو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

غـادة الحالمة.. والحجـاروذكرياته..وأصالة صوت بلا إحساس!

غـادة الحالمة.. والحجـاروذكرياته..وأصالة صوت بلا إحساس!
غـادة الحالمة.. والحجـاروذكرياته..وأصالة صوت بلا إحساس!


 
كنت على موعد مع الذكريات والأشجان والأيام الحلوة.. جلست وسط عائلتى الصغيرة.. نتبادل الحكاوى والذكريات.. حاولت جاهدة أن أشاركهم ضحكهم أو حتى دموعهم التى تسمرت فى العيون إلا أننى قد أيقنت ومنذ فترة أننى لم أستطع أن أبكى أو أضحك، مهدئات كثيرة وأدوية أعصاب أتناولها فى محاولة بائسة لتحمل الواقع الصعب الذى أصبح يحيط بنا.. تلك الأدوية جعلت منى مثلما جعلت مع كثيرين وكثيرات من زملائى طوبة.. نعم أصبحت طوبة أو شيئا مثل المياه لا لون ولا طعم.. سألتنى شقيقتى بعد أن لاحظت أننى شاردة.. أين أنت فأنت لست معنا.. قلت لا للأسف لم أعد قادرة لا على البكاء ولا على الضحك.
 
كنا يومها نلتف حول شقيقى وقد تمدد على سرير أبيض فى غرفة بيضا إلا من كنار بارز لتعليق المحاليل وجرس لنداء الممرضة.. تمدد يبكى وهو يشاهد مشهدا من رأفت الهجان..
هكذا هو دائما تنهمر دموعه بمجرد مشاهدة مشهد حب أو حتى مشهد يذكره بأبى وأمى أو افتقاده لأخى الذى اضطرته الظروف إلى السفر بعيداً بحثا عن فرصة عمل لم يجدها هنا فى بلادنا.
 
وكنت فى نفس اليوم على موعد مع غادة رجب وعلى الحجار.. وصلت متأخرة نصف ساعة من تكدس المرور الشديد الذى أصبح أحد أركان ومسلمات حياتنا.. فلم أستطع مشاهدة إيمان عبدالغنى مطربة الأوبرا.. إلا أننى استمعت إلى صوتها وأنا أنتظر فى البهو الملاصق للمسرح الكبير غنت أغنيتين لشادية فجاء صوتها يحمل شقاوة وعذوبة صوت شادية.. وهلت علينا غادة رجب بصوتها الدافئ الذى يثير مشاعرى كلما استمعت إليها.. وعلى الرغم من ندرة تواجدها فإننى لا أستمع إليها كثيراً.
 
إلا أننى رغم مرور السنوات على آخر مرة استمعت إليها لايف على المسرح.. بدأت دموعى تنهمر بلا توقف.. انسابت دموعى وبشدة وكأننى فتحت الحنفية.. هكذا كما كان يطلق علىّ أصدقائى.. فكانت مشاعرى تتأرجح مابين سعادتى بأننى أخيراً أبكى وشجونى من صوت غادة رجب.. كانت الصالة تضج بالتصفيق كلما بدأت أغنية أو أنهت أخرى.. بدأت وصلتها بذكاء شديد أغنية «أحلف بسماها وبترابها» فاشتعلت الصالة.. وألهبت المشاعر الوطنية لدى كل الحضور الذى جاء متعطشاً لسماع صوت جميل وسط القبح الذى يحيط بنا فى كل مكان فى الشارع، فى المواصلات فى التاكسيات.. حتى إن احتميت بمنزلك فإن الضجيج السمعى يصلك أينما كنت.. أصبحت وجوه الناس بائسة.. أياديها سمراء.. ملامح غائرة حزينة حزنا مكتوما وجوه طيبة دافئة ومشاعر شجية.
 
قالت غادة: إننى أستمتع بشكل خاص بالوقوف على خشبة مسرح الأوبرا فهذا العام هو الثامن عشر فى سنواتى مع الأوبرا الثمانية عشر عاماً أشارك فى مهرجان الموسيقى العربية تحدثت بروحها الشفافة عن أستاذتها الدكتورة رتيبة الحفنى قالت: الفن لا يهمه الظروف السياسية وذلك يؤكد أن مصر قادرة على تحدى الصعاب.
 
قالت: إن المهرجان قادر على الوقوف أمام حالة التردى الغنائى الذى نعيشه والاهتمام بالموسيقى العربية التراثية سيحيى الغناء فى مصر والإقبال على الحفلات أكبر دليل على ذلك، فلن نواجه الأعمال المتردية إلا بأعمال محترمة وقوية ومن حق الجمهور أن يختار الأفضل وينجحه.. لأن العمل لا ينجح إلا بالجمهور وفكرة أن الجمهور عاوز كده دائما فى مصلحة العمل، والشعب المصرى شعب طربى لا يزال اللحن الجيد والكلمة الساحرة لهما الأثر الأكبر على أذنه انسابت أغانى غادة رجب من «أحلف بسماها وبترابها» إلى «تسلم الأيادى» وبينهما «طاير يا هوا» كلمات محمد حمزة ألحان العبقرى بليغ حمدى غناها محمد رشدى.. غنت «على رمش عيونها» كلمات حسين السيد ألحان بليغ حمدى ثم أغنية أنت عمرى كلمات أحمد شفيق كامل ولحن محمد عبدالوهاب، وبعد تلك الأغنية انبعثت نداءات الحضور تطلب أغنية «تسلم الأيادى» فاستجابت لهم غادة على الرغم من رفض الأوبرا لغناء تلك الأغنية، إلا أن ما إن بدأت الفرقة تعزف اللحن الخاص بـ«تسلم الأيادى» إلا وضجت القاعة وارتجت من شدة التصفيق والتجاوب وكان لها مفعول السحر عليهم إلى أن جاء الكوبليه الخاص بها والذى غنته ضمن من غنوها وقالت التحية للى رسموا لنا الطريق.
 
تحية للرجل الجرىء.. إلا وزاد التصفيق والهتاف.. انسابت دموعى ثانية على وطنى المتعطش لبطل يحمل أحلامه يحاول أن يحققها.. بلدى الذى ظل يحلم بهذا اليوم الذى يظهر فيه «الهيرو» أو البطل أو النموذج الذى يستطيع أن يحارب طواحين الهواء من أجل قضايا شعبه.
 
وانسحبت غادة رجب بعد أن ألهبت مشاعر الجمهور وقد رافقها بالعزف فرقة المايسترو المتألق سليم سحاب، وحقيقة الأمر أننى من أشد المعجبين بهذا المايسترو والذى يقف خلف المطرب أو المطربة ليدير دفة العزف والغناء بحركة يديه الحادة العنيفة الواثقة من نفسها.
 
∎ أغانى الذكريات
 
وهكذا ظل الحضور فى حالة تأهب واستعداد لاستقبال الصوت القوى القادر على غناء أى لحن وأى كلمات، الصورة التى تضفى على أغانيه بعدا آخر.. يتخطى حدود الكلمات التى كتبها الشعراء والألحان التى وضعها الملحنون.. فالأغانى مع صوت على الحجار شىء آخر.. طعم مختلف.. فجميع أغانيه وإن كانت عاطفية مفعمة بالحيوية والثورة حتى وإن كانت ثورة على التابوهات الثابتة فى حياتنا، ومثال على ذلك أغنية «عارفة»، فربما كانت للحبيبة وربما كانت للوطن فى حضورها نشعر بحنين وحب ومشاعر دافئة مثل مشاعر الأبناء تجاه أمهم تقول كلماتها.. مش عارف ليه بتونس بيكى وكأنك من دمى.. على راحتى معاكى وكأنك أمى مش عارف ليه.. وأنا وياكى بحس الدنيا كلها سلام وأمان.. وإن العالم مافيهوش ولا نقطة أحزان.. إيدك خليها فى إيدى أنا طفل كبير.
 
وقف على الحجار على المسرح بشموخ وثقة من جمهوره الذى يتتبعه فى كل مكان.. جلست إلى جوارى سيدتان يبدو أنهما من عشاق على الحجار.. تبادلنا معا المناديل الورقية بعد أن انسابت دموعنا وهو يغنى هنا القاهرة لسيد حجاب ألحان الموسيقار عمار الشريعى وأغنية ظل النظام يحبسها داخل أدراجه إلا أنها أصبحت أيقونة النجاح ومن أشهر الأغانى التى يغنيها على فى حفلاته وذلك بدون فرقة موسيقية.
 
أين يمكن أن نجد الآن صوتا يغنى أغنية فى صعوبة هنا القاهرة وبدون فرقة موسيقية سوى صوت أكرر كلمة قادر مثل على الحجار.. صوت لا تقهره كلمات ولا ألحان وإنما هو الذى يطوع ما يروق له بصوته العذب القوى.. الشجى.
 
تعمد على فى هذا الحفل أن يغنى أغانيه القديمة التى مر على بعضها أكثر من خمسة وثلاثين عاما مثل «عنوان بيتنا زى ما كان بس انت نسيت العنوان» كلمات محمد البنا ألحان خليل مصطفى.
 
غنى كذلك على قد ما حبينا وهى أول ما غنى على من ألحان الموسيقار بليغ حمدى كلمات الشاعر الجميل عبدالرحيم منصور وكأنه يؤكد على مقولة قالها له والده ذات يوم اصنع أغانى تعيش بعدما تموت.. لا أغانى تموت وأنت عايش.
 
∎ فلاش باك
 
أعود فى نهاية سطورى إلى حفل الافتتاح والذى أحيته الفنانة أصالة.. طلت علينا بفستانها الأسود السادة إلا من نقوش خضراء فى ذيل الفستان.
 
امتدت فقرتها لأكثر من ساعة ونصف بدأتها بأغنية ثوار لثومة تخللها دويتو لها مع الصوت القادم بقوة الصاروخ أحمد سعد وأغنية لوديع الصافى وفيروز.
 
لا أدرى لماذا لم أستمتع بهذه الفقرة إلا فى هاتين الأغنيتين فعلى الرغم من صوتها القوى الجهورى الذى كان يعلو على أكثر من عشرين فردا من الكورال.. إلا أننى كنت أفتقد شيئا لم أفهمه إلا عندما استمعت لغادة رجب وعلى الحجار.
 
هذا الشىء هو الإحساس.. فإنها كلاعب ألعاب قوى يستعرض عضلاته بلا مشاعر ولا دفء يقربك منه.. ويجعلك تفضله على غيره.
 
فى كل حفلة من تلك الحفلات كنت أحضرها وأشعر أننى خلالها داخل قوقعة مؤمنة ضد كل ما هو ردئ وبمجرد خروجى أصطدم بالشلل المرورى فأعود إلى أرض الواقع.. وأعود طوبة مثلما أصبحت مؤخرا.