الخميس 2 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

حكومة «الفخفاخ» وعبور الأزمة السياسية فى تونس

ريشة: مها أبوعمارة
ريشة: مها أبوعمارة

الانتخابات البرلمانية فى تونس 6 أكتوبر الماضى أدت إلى حالة من الجمود السياسى، نتيجة لأن حزب الإخوان «حركة النهضة»، حصل على أعلى الأصوات «53 مقعدًا من أصل 217»، يليه حزب «قلب تونس» الليبيرالى 38 نائبًا، أما باقى المقاعد فقد وزعت على شكل فسيفساء حزبية، لا تسمح لأى منها بتشكيل الحكومة.. الفصل «89» من الدستور يمنح الحق لـ«النهضة» بوصفها الحزب الحائز على أكبر عدد من المقاعد البرلمانية، فى تشكيل الحكومة، غير أن عدم حصولها على الأغلبية المطلقة فرض الائتلاف مع الأحزاب الأخرى لتوفير الأغلبية البسيطة «51%».. الفشل كان نصيبها بسبب تعاظم مناخ عدم الثقة، فمعظم الأحزاب تتخوف من التحالف معها فى ضوء التجارب السابقة، التى انتهت بتفكك الأحزاب التى تحالفت أو توافقت مع «حركة النهضة».



 

سقوط حكومة الجملى

الرئيس قيس سعيد كلف الحبيب الجملى بتشكيل الحكومة 15 نوفمبر الماضى،  بترشيح من «النهضة»، وذلك خلال مهلة دستورية لا تتجاوز الشهرين، المذكور كاتب دولة سابق لدى وزير الفلاحة، شارك فى حكومتين سابقتين من الحكومات التى ترأستها «النهضة» من 2011 حتى 2014، بصفته تكنوقراطى مستقل!!.. لكنه لم يوفق فى مهمته خلال المهلة الدستورية الأولى «شهر من تاريخ التكليف»، بسبب عدم التوافق مع الأحزاب.. «النهضة» تمسكت بوزارات معينة، وتدخلت فى إدارة مشاورات تشكيل الحكومة بصورة أفسدتها، لأنها كانت منقسمة بين جناحين، الأول يدعم فكرة تكوين حكومة ثورية، يتم فيها التنازل لحزبى «التيار الديمقراطى» و«حركة الشعب» وبدرجة أقل «ائتلاف الكرامة» و«تحيا تونس»، والثانى يدفع فى اتجاه التحالف مع «قلب تونس» و«كتلة الإصلاح»، وإحياء مفهوم «التعايش السلمى»، الفريقان من داخل الحركة كانا على تواصل يومى مع رئيس الوزراء المكلف، وهو ما أدى إلى إرباكه، وظهور التخبط فى مواقفه.. خلال مشاوراته مع مختلف الأحزاب والمنظمات الوطنية، والشخصيات غير الحزبية، رفضت أحزاب «الشعب» و«التيار الديمقراطى» و«تحيا تونس» المشاركة فى الحكومة، ما دفعه إلى الاتجاه فى 23 ديسمبر نحو تشكيل حكومة كفاءات وطنية مستقلة، دون مشاركة حزبية.

الجملى أعلن تشكيلة حكومته التى تضم 28 وزيرًا فى 2 يناير، لكن «النهضة» دعته إلى تعديل بعض الأسماء، كما أن حزب «قلب تونس» رفضها كلية باعتبارها «تعد حكومة كفاءات نهضوية وليست مستقلة».. البرلمان رفض منح الثقة للحكومة فى 10 يناير، بأغلبية 134 نائبًا من إجمالى 200 حضروا جلسة التصويت.. ما أحال الأمر للرئيس قيس سعيد وفقاً للفصل 89 من الدستور الذى يخوله الحق فى إجراء مشاورات مع الأحزاب والائتلافات والكتل النيابية خلال عشرة أيام، لتكليف شخصية أخرى تكون أكثر قدرة على تشكيل الحكومة.

أزمة «قلب تونس»

الياس الفخفاخ الذى اختاره رئيس الجمهورية لتشكيل الحكومة، تعهد بالعمل على بناء أوسع تحالف سياسى ممكن «بعيدًا عن الإقصاء والمحاصصة الحزبية»، لكنه استثنى حزبى «قلب تونس» صاحب ثانى أقوى كتلة برلمانية، الذى ترشح رئيسه نبيل القروى فى مواجهة قيس سعيد فى الانتخابات الرئاسية، و«الدستورى الحر» المحسوب على النظام السابق، مؤكدًا أن الائتلاف الحكومى سيقتصر على الأطراف التى دعمت الرئيس فى الانتخابات.. «النهضة» إنحازت إلى «قلب تونس» وطلبت ضمه إلى الائتلاف الحكومى، بسبب رغبتها فى الحفاظ على التوازنات القائمة داخل البرلمان، التى ضمنت لرئيسها «راشد الغنوشى» رئاسة البرلمان، بعد تصويت كتلة «قلب تونس» لصالحه، فضلاً عن التنسيق معه على نحو يحقق أكبر حضور ممكن فى الفريق الحكومى،  مما يمنع انفراد الفخفاخ وأنصار الرئيس بالحكم، ويوفر «فيتو» فعالاً ضد تسمية شخصيات فى مواقع ترى الحركة أن تعيينها غير مطمئن لها.. كل ذلك يصب فى صالح الدور السياسى الذى يمكن أن تلعبه «النهضة».

تدخل رئيس الجمهورية

بعد رفض شروطها، انسحبت «حركة النهضة» من تشكيلة الحكومة المقترحة، وأكدت رفضها التصويت على منحها الثقة فى البرلمان، لعدم استجابة الفخفاخ لمطالبها الخاصة بتشكيل حكومة وطنية موحدة بعيدة عن الإقصاء.. الفخفاخ شرع فى تعديل التشكيل الحكومى فى ضوء تراجع «النهضة»، لكن أزمة سياسية غير مسبوقة كانت قد بدأت بالفعل، بعد أن تأكد أن الحصول على ثقة البرلمان أضحى من المستحيلات.. «قيس سعيد» تدخل فى الوقت وبالتكتيك المناسب؛ استدعى رئيس البرلمان راشد الغنوشى،  ورئيس حكومة تصريف الأعمال يوسف الشاهد 17 فبراير، ليؤكد بحزم أن «الدستور هو المرجع، وفى حال لم تحصل الحكومة التى سيتم تقديمها إلى البرلمان على الثقة، فسيتم حل البرلمان واللجوء إلى الشعب، فى انتخابات مبكرة».. الرئيس رفع سيف التحدى مؤكدًا أنه لن يترك بلاده تتقاذفها المصالح، «وإن المناورة تحت عباءة الدستور لا يمكن أن تمر»، وطمأن الرأى العام التونسى إلى عدم تأثير ذلك على كفاءة إدارة الدولة وتشغيل المرافق والخدمات، مؤكدًا استمرار حكومة تصريف الأعمال، لأنها غير مسئولة سياسيًا، ولا يملك البرلمان حق سحب الثقة منها.. هذا الموقف الحازم عرَّضه لحملة انتقادات واسعة نظمها الإخوان، لكنه لم يتراجع.. ونور الدين الطبوبى الأمين العام لاتحاد الشغل أكد «أن تونس لن تكون رهينة لأى حزب سياسى، ولا لمقررات مؤسساته».

حكومة الفخفاخ

تهديد رئيس الجمهورية بحل البرلمان حلحل الأزمة السياسية، ومكَّن الفخفاخ من التوصل إلى توافق مع الأحزاب السياسية، وفى مقدمتها «حركة النهضة»، على الانتهاء من مهمة تشكيل الحكومة، بعد تعثر دام قرابة الأربعة شهور، وقبل أربعة أيام فقط من انتهاء المهلة التى يحددها الدستور لتشكيل الحكومة، والتى يحيل الأمر بعدها إلى رئيس الجمهورية ليكون له الحق فى حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات مبكرة.

الحكومة ضمت 30 وزيرًا، واثنين من وزراء الدولة، نصفهم من المستقلين، يشغلون الوزارات السيادية «الدفاع، الداخلية، الخارجية، والمالية»، من أجل تحييدها عن الولاءات الحزبية، والنصف الآخر من ممثلى الأحزاب المشاركة، بعد استبعاد «قلب تونس»، وتم توزيع الحقائب وفقًا لثقل الكتل البرلمانية للأحزاب؛ حركة النهضة «6 حقائب»، التيار الديمقراطى «3 حقائب»، حركة الشعب وحركة تحيا تونس وكتلة الإصلاح الوطنى «حقيبتان لكل منهما»، والتمثيل النسائى لم يتجاوز 19 % من التشكيل «أربع وزيرات وكاتبتا دولة».. أحزاب «الشعب» و«التيار الديمقراطى» و«تحيا تونس» اعترضت على منح «النهضة» حقيبة تكنولوجيا الاتصال، وطالبت بـ«تحييدها» أيضًا، كما طالبوا باستبعاد عدد من الشخصيات «المستقلة» ظاهرًا، لكنها فى الواقع مقربة من التكتل الديمقراطى «حزب الفخفاخ»، الذى فشل فى نيل أى مقعد خلال الانتخابات البرلمانية.

عدد من السياسيين المعارضين أثار قضية ازدواجية الجنسية لعدد من الوزراء فى حكومة إلياس الفخفاخ، ودعوهم للتخلى فورًا عن جنسياتهم الثانية خدمة لمصالح تونس، هؤلاء الوزراء من بينهم الفخفاخ نفسه رئيس الحكومة المكلف، منجى مرزوق وزير الطاقة، سليم العزابى وزير الاستثمار والتنمية والتعاون الدولى، لبنى الجريبى الوزيرة المكلفة بالمشاريع الكبرى لدى رئيس الحكومة، فتحى بلحاج وزير التكوين المهنى والتشغيل، كلهم يحملون الجنسية الفرنسية إضافة للتونسية، كما أن لطفى زيتون وزير الحكم المحلى، يحمل الجنسية البريطانية.. لكن الحقيقة أن القانون لا يتضمن نصوصًا صريحة تجبر أعضاء الحكومة على التخلى عن جنسيتهم الأجنبية، بل إن الأمر اقتصر على اشتراط الدستور التخلى عن أى جنسية أخرى لتولى مهام رئاسة الجمهورية.

حصول حكومة الفخفاخ على ثقة البرلمان كفله التدخل السياسى والدستورى الحازم لرئيس الجمهورية فى مواجهة المناورات والضغوط التى مارسها الإخوان من أجل تحقيق مصالحهم الحزبية، تونس خرجت من أزمة الاستحقاق الحكومى بالغة التعقيد، وهى أزمة بدأت منذ الانتخابات البرلمانية فى أكتوبر الماضى، وهددت بانسداد سياسى حاد.. تدخل الرئيس أثار مخاوف الإخوان من احتمال خسارة بعض مقاعدهم إذا تم حل البرلمان، وإجراء انتخابات جديدة، لذلك ضمن الفخفاخ الثقة التى يكفلها تأييد 109 نواب من إجمالى 217، بينما تضم حكومته وزراء من أحزاب «النهضة» و«التيار الديمقراطى» و«الشعب» و«تحيا تونس» و«البديل» و«نداء تونس»، كتلتها النيابية تضم 120 نائبًا فى البرلمان، فى حين أن كتلة نواب المعارضة «قلب تونس، الدستورى الحر، وائتلاف الكرامة» لا تمتلك سوى 74 نائبًا، ما لا يسمح لها بحجب الثقة عن الحكومة.   

والحقيقة أن حصول حكومة الفخفاخ على الثقة فى البرلمان، ليست نهاية للأزمة السياسية فى تونس، فإدارة ائتلاف حكومى غير متجانس على هذا النحو، لن يكون بالأمر اليسير، خاصة أن «حركة الشعب» و«التيار الديمقراطى»، كانا حتى أسابيع مضت، يرفضان أى شراكة مع «حركة النهضة»، وسوف يكون تحقيق التوافق فى العمل بينهم هو التحدى الحقيقى للحكومة، الذى يحدد ما إذا كانت قادرة على الانطلاق ومواجهة الحالة الاقتصادية والمعيشية الصعبة، التى تشكل عنصرًا ضاغطًا على السلطة، فلاتزال نسبة البطالة فى مستوى 15,1 % والتضخم 6,3 % ونسبة النمو بحدود 1,4 % بينما يبلغ العجز فى الموازنة 3,5 % من الناتج المحلى الإجمالى، وهذا هو التحدى الكبير الذى ينبغى التفرغ له، بعيدًا عن الصراعات الحزبية ضيقة الأفق.