الجمعة 17 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

شعرت بالإهانة عندما سـمعت كلمــــة «مَــــره»!

شعرت بالإهانة عندما سـمعت  كلمــــة «مَــــره»!
شعرت بالإهانة عندما سـمعت كلمــــة «مَــــره»!


ئمن ثلاث سنوات لو كان طلب منى أن أتحدث عن تجاربى الشخصية فى التحرش الجنسى لكنت رفضت بالقطع مراعاة لشعور والدتى وارتباط التحرش بالفضيحة من وجهة نظر المجتمع ولكن الآن اعتقد أن هذا الكلام أصبح كلاما «لا يسمن ولا يغنى من جوع» فالموضوع لا يتعلق بأشخاص ولم يعد مجرد تجارب فردية، بل أصبح ظاهرة عامة تقلق وتخيف، لا ترتبط بملابس الفتيات كما يدعى بعض المرضى النفسيين ولا يرتبط كليا بالكبت الجنسى عند الشباب كما يتحذلق المتخصصون.
 
أنا كنت من المهتمين بتحليل الظاهرة وقد تقابلت مع عدد من النشطاء فى حقوق المرأة وأساتذة علم النفس الاجتماعى والسياسى كان سؤالى الأول عن الأطفال الذين يتحرشون فى الشوارع وهل هؤلاء الأطفال يشعرون برغبة جنسية؟ وهل تشبع لمسة من يد شخص متحرش لثدى أو مؤخرة فتاة رغبته الجنسية...؟ وكان الرد أن هؤلاء الأطفال يفعلون ذلك لأنهم لم يعتادوا على احترام المرأة فى بيوتهم فهى ثقافة مجتمع اعتاد على إهانة المرأة وعندما يخرج هؤلاء الأطفال لكى يحتفلوا بالعيد أو يحتفلوا مع أصدقائهم فإن التحرش يكون هو صيحة الفرح فإهانة المرأة جزء من فرحتهم أى أن الموضوع لا علاقة له بهرمونات ذكورة مبكرة ولا بملابس أثارت غريزتهم لأنهم فى النهاية أطفال.
 
 والرجل الذى يباغت المرأة بحركة هو لا يشبع غريزته بقدر ما هو يريد إهانتها وإفزاعها.
 
أيضا هناك ما يطلق عليه عقدة التعرى لدى الرجل وهو الرجل الضعيف الشخصية والذى يستمد قوته من مجرد حالة الفزع التى تصيب الفتاة عندما تراه عاريا أى أن موضوع التحرش كل أوله عن آخره يرتبط بمفاهيم سائدة فى المجتمع وثقافة أصبحت ثقافة للمجتمع تعظم الرجولة وترى فى إهانة المرأة وملامسة جسدها بشكل مهين انتصارا ساعد على تفشيه الغياب الأمنى وعدم وجود ردع
 
كما أن هذا بالطبع لاينفى وجود شريحة من المتحرشين يهدفون لتفريغ كبتهم الجنسى لكن أعتقد أن هؤلاء ممن يصعدون وسائل المواصلات ويلتصقون بأجساد النساء أما الأغلبية ممن يفزعون النساء فى الشوارع ويهرولون وراءهن ويسمعونهن البذاءات فهم من الذين يسعون لتحقيق الانتصارات.
 
وقد وقفت مليا وأنا استمع لإحدى صديقاتى تكبرنى بأعوام فى أول الأربعينيات وهى تحكى عن أنها تسكن بجانب مدرسة إعدادى وأنها لا ترجع من عملها إلا بعد أن تتأكد أن تلاميذ المدرسة قد غادروها لأن وقت خروج الطلبة يكون أسوء ما قد يمر على امرأة (وهناك مثل قديم يقول إذا أردت أن تهين امرأة فسلط عليها طفل)، وقد التف الطلبة حول صديقتى فى مرة من المرات لما يقرب من ربع ساعة واسمعوها كلاما بذيئا وحاولوا لمس جسدها.
 
وظلت دقائق طويلة وهى تحاول أن تخرج من الدائرة ولم تتمكن من ذلك إلا بعد أن تحاورت معهم وأقنعتهم بأن لديها ابنا فى نفس عمرهم.
 
فلماذا فعلوا تلك الأفعال وهى فى سن والدتهم؟ وهل شعروا بالإثارة تجاهها؟ وهى سيدة محتشمة عائدة من عملها.. أم أن الموضوع ما هو إلا مجرد فعل سخيف اعتادوا عليه لترهيب امرأة وتخويفها والانتصار عليها.
 
وبما أنه طلب منى أن احكى عن تجارب شخصية للتحرش أرى أن أسوء ما فى الحكاية أننا كبنات فقدنا حرية التنقل فى الشارع والاستمتاع بالمشى فأنا أحب المشى جدا وإذا كنت فى بلد آخر لكنت ذهبت لعملى سيرا على الأقدام لكن بالطبع هذا من المستحيل أن يحدث لأن الشارع ما هو إلا دائرة كبيرة من السفالات والسخافات والأفعال الصبيانية القميئة وربط كل شىء يدور فى حياتنا بالجنس فقط ويا ليتنا كنا نعرف عن الجنس ما يجب أن نعرفه عن حق.
 
وأنا كبنت من بنات جيلى أفكر مائة مرة قبل أن أنزل من بيتى بما أرتديه وأحسب الخطوات والمسافات التى سأمشيها بدون سيارتى والأماكن التى قد أذهب لها ولا يمر يوم بدون تحرش فإما كلمة أو نظرة أو تصرف نتساوى فى ذلك جميعا فتيات صغيرات وسيدات ومسنات حتى أصبح أن تمشى البنت وتركز فى طريقها فقط شىء مستحيل فلابد أن تكون البنت بكامل تركيزها وطاقتها الذهنية متقدة.. تراقب الطريق وكل مدخلاته وتراقب بعينيها من يأتى خلفها ومن يأتى من جانبها وتكون منتبهة لأى حركة مباغتة قد يفعلها صبى أو طفل.
 
 الكلام القبيح أعتقد أن أذاننا اعتادت عليه من كثرة ما نسمعه فى الشارع ولكن شهادتى كفتاة أن أكثر كلمة شعرت معها بالإهانة وفاق تأثيرها كل البذاءات التى نسمعها فى الشارع هى كلمة (مرة) وبالفعل كان المخرج رأفت الميهى عبقرى عندما اختار هذه الكلمة فى فيلم (سيداتى سادتى) عندما كان يريد أن يختبر رد فعل معالى زايد عندما أرادت أن تحول نفسها رجلا فقال لها يا مرة فبادرته بالضرب فهى حقا كلمة مستفزة لم أكن أعلم أننى عندما أسمعها يمكن أن تثير غضبى وحنقى للحد الذى لو كنت أستطيع أن الحق بمن قالها وأوسعه ضربا لكنت فعلت ذلك دون تردد.
 
 فإن أخطر ما فى التحرش إنه قد نزع إحساس الأنوثة عند المرأة وجعل أذنيها تستمع لكل ما هو بذىء وأجبرها عن الدفاع عن نفسها ورد الإهانة بمثلها أو أقبح منها أو التشابك بالإيدى فجعل منا متأهبات لقول البذاءات فى أى وقت.. عن نفسى لا أميل كل عام أن نتحدث عن التحرش ونعدد فى أسبابه ونحلل فى ظواهره ونشكو أنوثتنا المفقودة ونتذكر أسوء ما مر علينا ونظل بالأيام نعانى من غصة النفس والغثيان إذا ما لمس أحد جزءا من جسدنا.
 
ونود لو استطعنا أن نقتطع ذلك الجزء من جسدنا ونلقى به من كم النيران التى تشتعل فى جسدنا من لمسة أخذت منا غصبا وإجبارا.
 
 فالتحرش ظاهرة لن تعالج بالكتابة عنها ولو كتبنا عنها ما تبقى من عمرنا.. ولن تقرأنا الطبقة المتحرشة.
 
 ولن يخجل المتحرش من نفسه عندما نواجهه بأنه إنسان ضعيف ومريض.
 
 ولن تكف الجمعيات الأهلية عن التنديد بالتحرش وإحصاء حالات التحرش فى كل عيد ومناسبة، فلا أحد يستطيع أن ينكر دورها ويكفى أنها ألقت حجرا فى بركة راكدة من العادات والتقاليد والخوف فشجعت كثيرا من الفتيات وأنا واحدة منهن على أن نحكى ما يحدث لنا بقوة ودون تردد لكن كل هذا لا يكفى.. التحرش فى مصر علاجه علاجا أمنيا فهى الخطوة الأولى والأساسية إذا كنا نريد أن ننقذ سمعة مصر.
 
فما يحدث فى شوارعها لا يليق بنا ولا بها.
 
لابد من وجود رادع قانونى.. لابد من وجود أمن يحمى السيدات فى الشوارع ويكون على استعداد أن يتدخل ويرهب المتحرش ولا يكون رجال الأمن هم أول المتحرشين، فأكثر كلام بذىء أسمعه من عساكر الأمن المركزى فى شارع قصر العينى.
 
لابد أن يكون العسكرى محترما.. وأن يعرف أن من واجبه الحفاظ على أمن السيدة أو الفتاة التى تسير فى الشارع وأنها لا تقل أهمية عن مبنى السفارة أو الوزارة التى يحميها، فأى حرية ننشدها وأى مساواة وإذا كانت أى امرأة لا تستطيع أن تسير بكرامتها لمدة خمس دقائق.