الأحد 16 يونيو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

الآم والآمة.. كلمة واحدة

الآم والآمة.. كلمة واحدة
الآم والآمة.. كلمة واحدة


«إن محاولة المساس بالتسامح والسلام بين الأديان مثل الخنجر المسموم، وكيف نتصور مجتمعا واحدا يتفاعل ويتعاون فيه أبناؤه؟! إن كلمة الأمة من الأم، فينبغى أن تكون علاقة الفرد بأمته.. أو وطنه، أو مجتمعه كعلاقته بأمه، والمعتنق لأى دين من الأديان المنزلة له نفس حقوق الفرد الذى يعتنق دينا آخر، له الحق فى السلام والتعليم وكل الحقوق».
 
هذه كلمات من مقال الدكتور أستاذ الفلسفة والكاتب «عاطف العراقى» عن التسامح بين الأديان ضمن مجموعة مقالات فى كتابه المهم «التنوير والمجتمع».. وجعتنا حكاية حرق عدد كثير من الكنائس وبالمرة تخريب بعض الجوامع.. فى شهر أغسطس 2013 لترويع أهل مصر ولنشر حكاية الفتنة الطائفية وتصديرها للخارج، وهذا أهم مبرر يصلح للتدخل الخارجى فى خصوصيات السياسة المصرية الداخلية، ولوصم مصر أمام العالم بالتهمتين التقليديتين وهما التعصب الدينى وكراهية الأجانب.. عدت إلى كتاب الدكتور «عاطف العراقى» وإلى مقال «التنوير والتسامح بين الأديان».. ألخص بعضا منه لنفهم أهميته.
 
∎الطريق إلى التسامح
 
يقول د. العراقى: إن الطريق إلى التسامح بين الأديان هو طريق القيام بخطة تنويرية شاملة داخل وسائل الإعلام وفى مناهج التعليم من أول مراحله وحتى آخرها، يتحدث عن المناهج الدراسية فإن ما يؤدى إلى التناسق والتناغم بين أفراد المجتمع هو حذف كل ما يسىء إلى الوحدة والاتحاد بين أبناء الأمة الواحدة، فالعيب هو الفهم الخاطئ للدين. لقد قاد الدين شعوب العالم نحو المثل العليا والقيم الرفيعة الخلقية، فإذا وجدنا خللا فإن الخلل يتمثل فى الأقلام التى توجهها بعض الدول التى يهمها إثارة القلاقل والفتن فى بعض المجتمعات لتسودها.. ويؤكد الدكتور «العراقى» أن الطريق إلى التسامح بين الأديان ليس صعبا كما يتصور البعض، فعالمنا العربى طوال تاريخه لم يعرف إلا فى أوقات قليلة ومتباعدة ما يسمى بالفتنة الطائفية.. إنه طريق سهل إذا استفدنا من المؤتمرات الخاصة بالحوار بين الأديان.. إنها تؤكد التجردمن التعصب الذى يسىء إلى سماحة الأديان السماوية وضرورة الحرص على حق البشرية أن تعيش فى سلام.. وأن يدرس الشباب أفكار وقيم الأديان الأخرى المنزلة.. طريق التسامح سهل.. لأننا نجد الآن رجال الدين فى كل الأديان أناسا آمنوا بوطنهم وربهم وتجردوا من المصلحة الخاصة ووضعوا وطنهم فوق كل اعتبار.
 
∎الوطن فوق الجميع
 
يؤكد «د. عاطف العراقى» أن التسامح يؤدى إلى التآلف والتعصب إلى النزاع.. وأننا الآن أكثر من أى وقت مضى فى أمس الحاجة إلى التأكيد على أهمية التسامح كقيمة عليا تنويرية.. إن التسامح بين الأديان يجب أن يبقى ويستمر ما بقيت الحياة على الأرض فالتسامح هو الحياة.. وركيزة المجتمعات التى تقوم على التعاون.. إن عالمنا العربى من آلاف السنين يعيش فوق أرضه أبناء الديانات كلها، ولا مكان لمن يتاجر بالدين ويقوم باستغلاله.. وطننا الإنسانى الكبير، الوطن الذى يعيش فيه كل سكان العالم أمانة فى أعناقنا، فلا يصح أن يكتفى مواطن بإقامة الشعائر الدينية دون أن يجعل سلوكه معبرا عن الدين وجوهره.
 
يأخذنا د. العراقى فى هذا المقال الطويل عن التسامح بين الأديان إلى تاريخنا القديم والحديث ويحدثنا عن التنويريين القدماء فى هذه المسألة المهمة.. من مفكرين مسلمين ومسيحيين، وقد جمع هذه المقالات المهمة فى التنوير والمجتمع فى الكتاب الذى صدر عام 2008 ونحن فى حاجة الآن إلى هذا التنوير.
 
∎احتضان الهلال للصليب
 
لا يمكن أن نتحدث عن التسامح بين الأديان بدون أن نذكر هذا المرجع الكبير الملىء بالمعلومات المهمة، هذه الدراسة القيمة الوطنية التى قام بها المفكر الباحث الكاتب المستشار «طارق البشرى» التى أخذت منه سنوات فى تجميعها وكتابتها وظهرت فى كتاب كبير الحجم تحت عنوان: «المسلمون والأقباط فى إطار الجماعة الوطنية».. وهو يقصد بالجماعة الوطنية عموم المصريين وليس جزءا صغيرا منهم وتعنى التصنيف السياسى للجماعة البشرية التى تقوم على التاريخ الواحد المشترك وتضمها حكومة واحدة.. وقد ظهر هذا الكتاب أو المرجع المهم عام 1980 ولأهميته وتداوله فى الوطن العربى صدرت له أربع طبعات كان آخرها عام 2004 وكان بعدد أبحاث أكثر حتى وصل إلى تسعمائة صفحة.. ويا ريت يتبنى مركز الترجمة المصرى هذا المرجع ليترجمه إلى اللغة الإنجليزية والفرنسية ليعرف حكام أمريكا والغرب عموما أن النسيج الوطنى لمصر من مسلمين وأقباط لن يزعزعه تمويلهم المادى أو المعنوى لحرق كنائس أو تخريب جوامع.
 
يحدثنا المستشار «طارق البشرى» عن هذه الدراسة: «إن موضوع الدراسة لا ينبغى أن يكون متعلقا بموقف الأقباط من الحركة الوطنية أو السياسية عامة.. لأن هذا الوضع للمسألة يعتبر عندى وضعا مغلوطا.. إن الوضع السليم فى ظنى يتعلق بدراسة مسألة المسلمين والأقباط فى إطار الوعاء الحاكم للمسألة وهو الجامعة السياسية، وتتبع التطور التاريخى لهذه الجامعة».
 
ومن هذه الفكرة يتتبع الباحث نمو المفهوم القومى لهذه الجامعة السياسية منذ القرن التاسع عشر مع تاريخ مصر مع نشأة دولة «محمد على» عام 1805 ويجد أن التاريخ المصرى يكشف أن ثمة تلازما تاريخيا بين تكوين الجامعة الوطنية المصرية فى العصر الحديث وبين بناء الدولة الحديثة فى عهد محمد على.. تحدث الباحث عن عصر محمد على وعملية بناء مصر الحديثة، دولة ومجتمعا وبناء الجيش المنظم من المصريين، وإن كانت بدايته تعفى الأقباط إلا أنه فى عهد «محمد سعيد» أزيلت آخر عقبات الاندماج بين العناصر المصرية بالقرار الذى أصدره الوالى بوجوب دخول الأقباط فى الجيش وألغيت علامات التفرقة الدينية بإلغاء الجزية المفروضة على الذميين.. وكتب الباحث عن الكنيسة القبطية فى مصر وتاريخ معاناتها على أيدى المسيحيين الملكانيين فى القرن الثامن عشر.
 
∎الوحدة الوطنية ومحاولة إبعاد الهلال عن الصليب
 
فى كتابه الكبير المرجع المهم.. كتب المستشار طارق البشرى تاريخا طويلا عن حياة المصريين مسلمين ومسيحيين أو أقباطا كما يسمون فى مصر.. كتب عن وحدتهم وامتزاجهم بالوطن الواحد.. وحبهم له.. ومن كلمات عبدالله النديم بعد فشل ثورة عرابى واحتلال الإنجليز لمصر: «المسلمون والأقباط هم أبناء مصر الذين ينسبون إليها وتنسب إليهم.. قلبتهم الأيام على جمر التقلبات الدولية وقامت الدنيا وقعدت.. وهم.. هم.. أشقاء فى الوطنية».. صفحات كثيرة تاريخية وأدبية وسياسية عن بدايات القرن العشرين ومحاولات المستعمر الإنجليزى لمصر عمل تفرقة بين المسلمين والأقباط، وظهر ذلك الشقاق فى تبادل الكتابات فى الجرائد المصرية، وقد قام العاقلون بنقد ذلك الشقاق من الأقباط والمسلمين.. وكان الطابع العام فى ذلك النقد هو طابع العتاب.. لم يعرف من أحد طعن الدين ذاته، وكان تحذير العقلاء من أن الخلاف لن يفيد إلا المستعمر.
 
ونقرأ فى هذا البحث الكبير تفاصيل المؤتمرات التى عقدت فى ذلك الشأن الذى يؤذى الوطن: «نستطيع أن نقول إن هذا الشر المستطير كان بداية فى خير عميم، وإن كان من الحق أن هذه الخصومة كانت قمة العنف والنزاع الذى ينذر بتصدع الجامعة المصرية، فمن الحق أنها كانت فى نفس الوقت الميلاد الحقيقى لفكرة الوطنية المصرية».
 
وذكر المستشار طارق البشرى فى هذا المرجع المهم أن ثورة 1919 كانت ذات أثر حاسم فى امتزاج المصريين وإفساد ذرائع التفرقة الطائفية فى مصر.. ومن كلماته فى ختام هذا البحث الممتاز: «أقول.. لا يضمن أحد لأحد شيئا إلا حقه فى المساواة السياسية والاجتماعية وإلا حقه فى المشاركة والمودة وليس من عاصم إلا الانتماء وإنكار الذات.. يأتى ذلك بإسلامية المسلم وقبطية القبطى.. معا يتواحدان مندمجين فى وطن واحد، على أرض واحدة وقد سبق العصر القبطى العصر الإسلامى فلا يوجد ما يتنافى مع الإسلام فى تقرير بطولات ذلك العصر.. كما أن رمز ثورة 1919 كان احتضان الهلال للصليب كرمز لاحتضان الأغلبية الدينية للأقلية.. إننا نبحث عن صيغة وجود حنى قوى.. المساواة والمشاركة فى الوطن.. التواد والتحاب فى العيش».
 
أقول وأتمنى ونتمنى لأمنا مصر أن يتغلب أبناؤها على أى زعزعة طائفية وغير طائفية.. وليتذكروا وليفهموا كما كتبت فى بداية المقال أن كلمة الأمة من الأم.. والذى يؤذى أمه ربما لا يعاقبه قانون الأرض.. بقدر ما يعاقبه قانون السماء.