الرجــل والحصان
هايدي فاروق وريشة هبة المعداوي
حاول أن يبقى ساقيه منتصبتين ولكنهما لا تستمران سوى لحظات وتتراخى يحاول أن يقف على قدميه الأماميتين فتنزلق الخلفيتان محاولات فاشلة فلا يتحرك خطوات حتى يتراجع مثلها، ولكنه يصر على الصمود يجمع ما تبقى له يأبى الفشل .. العجز.. ولكن ماذا سيفعل؟ حمولته ثقيلة أكثر من 60 قفصا وعربة خشبية ورجل فى الستين من عمره حمل ثقيل يجره تتلوى أقدامه وتضيع ثقة الرجل به وهو مصر على المحاولة..
يحاول أن يثبت رجليه الأماميتين فتنزلق الخلفيتان وكى لا يتهاوى يتكئ على ساق واحدة فتتهاوى الأخرى.. لم يعد عابئا بصورته المنكسرة الضعيفة وأصبح كل ما يشغله ألا يقع .. فإن وقع لن يتبقى له شىء سيفقد صاحبه.. وسيفقد نفسه.
ولكن أليس الرجل السبب؟.. لقد توسل إليه صباحا كى لا يضع كل الأجولة على العربة ولكنه لم ينتبه إلى أناته ربما اعتقد أن صوت أنينه ميوعة وأنه قادر على الحمل مهما ثقل.
ماذا إذا استجاب الرجل لتوسلاته ووضع نصف عدد الأقفاص وعاد مرة ثانية ووضع النصف الآخر؟!
ماذا لو أطعمه الرجل قطعة سكر صباحا؟ إنه يحب السكر ماذا لو دلله؟ ماذا لو وعده بأن يطعمه قطع السكر مساء؟ إنه على استعداد أن يغدو ذهابا وإيابا إذا دلله الرجل، لكنه عنيد متكبر تلذذ بسقوطه فى بئر الحرمان.
فقد أصر على ألا يطعمه من السكر وأن يحمله كل الأقفاص دون أن يلتقط أنفاسه ربما زاد فى دلاله طمعا فى مزيد من الحب.. الحب الذى يصنع المعجزات، ولكن هل تكون المعجزة جر 60قفص طماطم وعربة خشب و07 كيلو لحم وعظم.
إن قلبه مع صاحبه لم يعرف إنسانا غيره فى حياته ولا ينتظر أن يطعمه سواه.. يقاوم الألم من أجله ويعد الخطوات المتبقية كى لا يخذله ناظرا إلى السماء كى يعطيه الله القوة داعيا الله أن يسقط بعيدا عن صاحبه كى لا يحزن.. إنه يعلم أن صحته وجماله مصدر سعادة العجوز أنه يسعد عندما يرى القوة والصبا وسقوطه يعنى اليقظة من حلم جميل تداعب فيه الفراشات وريقات الزهور.
يطلب منه دائما أن يكون قويا قادرا متفائلا.. لكن كيف؟
ارتعشت جفونه فوق عينيه عندما تذكر أن الرجل قد استكثر عليه قطعة السكر تلك القطعة الصغيرة.
والتفت برأسه عاتبا عليه.. إنه لا يشبع إلا من يديه ولا يفرح إلا معه.
تمنى أن يشعر الرجل بألمه، أن يلمس وجهه، أن يداعب رقبته، أن يهمس فى أذنيه، ولكنه لم يفعل!
فأرجع رأسه ونظر إلى الطريق.. طويل كئيب يحتاج إلى ساعات كى يعبره وهو منهك تعب والحمولة تزداد ثقلا.. والشمس غابت والظلام ينشر سواده فى تشفٍ.
والكل مسرع من حوله وهو الوحيد العاجز.
لكنه لا يستطيع الهرب منه، إنه قدره فمن بين العشرات وقع الرجل فى حبه فاشتراه، ومن بين ملايين الوجوه يظل وجه الرجل وابتسامته تبعث الطمأنينة فى قلبه فلا يهدأ إلا بلمسته ولا يشرب إلا من يديه ولا ينام إلا على صوت ضحكاته مع رفاقه.
عشقه بجنون يقف كل صباح ضارعا بين يديه مستسلما لأوامره متفهما لغضبه.
وحاول مرة أخرى.. إنه يريد أن يصل... بكل العشق والصدق يتمنى ذلك.. إنه خلق كى يسعد العجوز يتمنى لحظة تفريغ الحمولة كى يرى تلك اللمعة فى عينيه سيبيع المعشوق الطماطم ويقضى ليله مع رفاقه يشرب الشاى ويدخن ويلقى النكات وينام هادئا.
ورفع العجوز يده بالكرباج وهوى به على الجسد البارد الحزين فانتفض ألما وارتعشت دمعة حبيسة بين مقلتيه وتيبست قدماه.. فهوى على الأرض.. وسقطت الحمولة وتناثرت حبات الطماطم أسفل عجلات السيارات المسرعة.. وضاعت أحلامهما!