السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

«موجة حارة»..عودة العصر الذهبى للدرامـا المصرية!

«موجة حارة»..عودة العصر  الذهبى للدرامـا المصرية!
«موجة حارة»..عودة العصر الذهبى للدرامـا المصرية!


فى مقدمة روايته «منخفض الهند الموسمى» يروى المؤلف الراحل أسامة أنور عكاشة ظروف كتابته للرواية التى ظلت تخامره وتلح على ذهنه لسنوات، وهو يتهرب منها لضيق الوقت وانشغاله بكتابة المسلسلات التى تدر عليه مكسبا لا يقارن بالطبع بما تدره الروايات والكتب عموما.
 
عكاشة اضطر إلى كتابة الرواية- التى تحولت إلى مسلسل بعنوان «موجة حارة» كان من أنجح الأعمال التى عرضت فى رمضان الماضى- بعد أن تورط فى وعد لصحيفة «الجمهورية» اليومية بنشر النص، حين الانتهاء منه، عندهم، فما كان من الصحيفة إلا أن نشرت تنويها عن ذلك وتاريخ نشر الحلقة الأولى.. وحسنا فعلت، لأنها شجعت عكاشة على كتابة واحد من أفضل أعماله الأدبية، وواحد من أفضل الأعمال الدرامية التى قدمها التليفزيون.
 
 
شهرة أنور عكاشة فى كتابة الدراما التليفزيونية طغت على شهرته كأديب وكاتب مقالات وسيناريوهات سينمائية. والحق أن موهبة عكاشة فى كتابة المسلسلات لا تقارن أيضا بموهبته فى المجالات الأخرى.
 
يستثنى من ذلك، ربما، تلك الرواية التى كتبها عام 2000 كحلقات مسلسلة أولا، ثم نشرت ضمن سلسلة «كتاب الجمهورية» ولم يلتفت إليها الكثيرون.. ذلك أنها لا تقل براعة ولا عمقا عن أعمال عكاشة التليفزيونية، وربما تزيد عليها فى قدر الحرية التى أعطاها لنفسه فى كتابتها على مستوى الموضوع والسرد واللغة والحوار.
 
رحل أسامة أنور عكاشة عن عالمنا فى نهاية عام 2010، ولم يشهد الثورة المصرية التى كان ينتظرها ويبشر بها لسنوات، ولم يشهد روايته وهى تتحول إلى مسلسل بديع يذكرنا بالعصر الذهبى للدراما المصرية على يد أنور عكاشة فى «الشهد والدموع» و«ليالى الحلمية» وغيرهما، وإن كان «موجة حارة» ليس تكرارا للمجد القديم وإنما تحقيق لمجد جديد يليق بالدراما المصرية وبما لحق بحياة المصريين خلال العقود الثلاثة الماضية.
 
«موجة حارة» عمل من نوع خاص، وفتح فى مجال الدراما التليفزيونية مثلما كانت أعمال عكاشة الأولى فتحا فى زمنها.. من المؤكد أنه تاه وسط زحام عشرات الأعمال المعروضة فى رمضان، وانشغال الناس بالأحداث السياسية العنيفة، ولكن حين يعاد عرض العمل فى وقت لاحق أكثر هدوءا وملاءمة، أعتقد أنه سيلقى ما يستحقه من اهتمام ومتابعة.
 
«موجة حارة» يتميز أولا بمستوى إخراجى لم تصل إليه الدراما التليفزيونية المصرية من قبل، وهو أفضل ما قدمه المخرج محمد ياسين سواء فى السينما أو التليفزيون، ومن المعروف أنه أخرج قبل هذا العمل عدة أفلام متراوحة المستوى منها «محامى خلع» و«كعب الغزال» و«الوعد» ومسلسل واحد هو «الجماعة» الذى كتبه وحيد حامد وتناول فيه حياة حسن البنا مؤسس جماعة «الإخوان المسلمين»، وقد عرض الجزء الأول من المسلسل عام 2010 ولكن بعد ركوب الإخوان على الثورة شنوا حملة لمنع عرض الجزء الثانى من العمل، بحجة أنه يسىء للجماعة.
 
فى «موجة حارة» يسيطر ياسين على كل عناصر العمل، من تصوير وتمثيل وتصميم للمشاهد واللقطات وتوظيف للديكور والملابس والاكسسوارات والمونتاج والموسيقى التصويرية والمؤثرات الخاصة.. ويحقق درجة من الانسجام قل أن يتحقق فى مجال المسلسلات، ومن بين هذه العناصر يتجلى بشكل خاص عنصرا التصوير والتمثيل. ومن المدهش أن المسلسل هو أول أعمال مدير التصوير الشاب عبد السلام موسى، الذى أبدى موهبة كبيرة فى عدد من الأفلام السينمائية على رأسها «مصور قتيل» و«هرج ومرج».
 
فيما يتعلق بالتمثيل يضم «موجة حارة» نخبة من أسطوات فن التمثيل الكبار والشباب على رأسهم إياد نصار ومعالى زايد وهالة فاخر وسيد رجب وهنا شيحة ورانيا يوسف وجيهان فاضل ودينا الشربينى وصبا مبارك وبيومى فؤاد وسامى مغاورى وحتى مدحت صالح الذى يعيد اكتشاف نفسه كممثل. يمكننى أن أتحدث طويلا عن مشاهد بعينها، يرتفع فيها فن الأداء إلى القمة، لولا أننى أخشى أن أظلم مشاهد أخرى قد تكون أقل صخبا ولفتا للانتباه ولكنها لا تقل إبداعا، إن لم تزد. يمكننى فقط أن أشير لمشهد واحد لا يظهر فيه أى من الأسماء التى ذكرتها، وهو عبارة عن مشاجرة بين شابة ثورية تلعب دورها الوجه الجديد رحمة حسن وبين أمها التى تؤدى دورها حنان سليمان، عندما تعود فى وقت متأخر من الليل. رحمة حسن ممثلة موهوبة، ولكن لا تزال صغيرة ولا تجيد التحكم بعد فى درجة انفعالاتها، وحنان سليمان ممثلة ذات خبرة، ولكن على الطريقةالميلودرامية الصاخبة التى تتسم بها الدراما التليفزيونية. من الصعب أن تخرج من الاثنتين بمشهد يتسق ويتناغم مع بقية الأداء التمثيلى الواقعى والراقى فى المسلسل، ولكن عن طريق تصميم الحركة داخل المشهد وتقسيم الحوار المشاجرة إلى عدة لقطات بدرجات انفعالية مختلفة، يستطيع أن يحقق الهدف إلى حد كبير.. عادة لا يهتم مخرجونا، سواء فى السينما أو التليفزيون، بالمشاهد الثانوية ولا الممثلين الثانويين، ولو أردت أن تعرف مستوى مخرج عليك أن تراقب اهتمامه بالممثلين الصغار والمجاميع وهذه المشاهد العابرة التى تبدو غير مهمة.
 
لا يمكن الحديث عن أسامة أنور عكاشة ولا محمد ياسين دون الحديث عن الدور الهائل التى بذلته كاتبة السيناريو مريم نعوم وفريق العمل الشاب الذى شاركها كتابة المسلسل، والاهتمام البالغ الذى كتب به كل مشهد ولقطة وكل جملة حوار.
 
المسلسل صعب. موضوعه جرىء وصعب، وشخصياته مركبة وصعبة، وغالبا لم يستطع أسامة أنور عكاشة أن يكتبه كمسلسل لإدراكه بأن الرقابة لن تسمح به، والذوق العام لن يتقبله.. ومن يقرأ الرواية سيفاجأ بقدر التحرر الذى منحه عكاشة لنفسه من أجل التعبير بأكبر قدر من الصدق عن رؤيته لمصر فى العقد الأول من القرن الواحد والعشرين.
 
مصر فى المسلسل عبارة عن بيت دعارة كبير بسبب الفقر من ناحية، وما يهب عليها من رياح الخليج الحارة من ناحية. الفساد يضربها مثلما تضربها الموجات الحارة المحملة بالرطوبة الشديدة من آسيا التى تفسد الطقس وتشيع رائحة العطن والموت فى كل مكان. عنوان العمل الروائى، وكذلك التليفزيونى، يشير إلى الرياح الصيفية شديدة الرطوبة واللزوجة التى تهب على مصر من الخليج، فى إشارة ضمنية للتأثير السلبى للغزو الخليجى للمجتمع المصرى على مستوى الأفكار والعادات الاقتصادية والاجتماعية.
 
الصراع الأساسى فى المسلسل يدور بين ضابط فى مباحث الآداب وقواد محترف، وبالتحديد حول جثة عاهرة يجرى البحث عن قاتلها، وعبر هذا الصراع تمر أصناف وأطياف من الفساد المستشرى فى كل أرجاء المجتمع.
 
الدعارة والقوادة، الاغتصاب فى السجون وأقسام الشرطة، فساد ضباط الشرطة، المثلية، المخدرات، العنف البدنى واللفظى. هذه هى الخلفية التى تدور حولها أحداث المسلسل، لذلك لم يكن غريبا أن يصبح «موجة حارة» هو أول مسلسل عربى تكتب قبله عبارة «81+» أى مسموح فقط لمن هم فوق سن الثامنة عشرة.
 
باختصار، «موجة حارة» عمل فذ فى تاريخ الدراما المصرية، ولو ترجم هذا العمل وعرض على أى قناة أجنبية عالمية فمن المؤكد أنه سيحظى بالنجاح، ومن المؤكد أيضا أنه يمكن أن يكون بداية عهد ذهبى جديد للدراما المصرية.