الثلاثاء 1 أكتوبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

نصبة شاى

نصبة شاى
نصبة شاى


شحيحة الحظ من الجمال بشرتها سمراء غير متجانسة اللون.. تحت عينيها هالات من السواد وشعرها مجعد يظهر من أسفل طرحة بيضاء خفيفة شفافة لا ترتدى سواها بنت فى الخامسة والثلاثين من عمرها جسدها ممتلئ وخاصة من الأسفل وربما امتلاء ردفيها ومؤخرتها ما كان يحرك العيون نحوها، ولكن بعد أن تهدأ كومة اللحم تعود العيون إلى ممارسة عملها من جديد ولا تستقر مطلقا على الجسد المشتاق سوى لحظات..
 
 
وهى ذكية بالفطرة، فعلى الرغم من أنها لم تكمل دراستها الابتدائية إلا أنها بذكائها الفطرى أدركت العديد من الأمور منذ صغرها وتعاملت مع العديد من المواقف بصمود وإيمان فقد أدركت أنها غير جذابة بالمرة وأن حظها قليل فى الدنيا.. عرفت معنى حياة الشارع منذ زمن، فهى تعمل بائعة شاى حياتها لا تتعدى المنطقة التى تعمل بها والتى تسكن فيها وتعول أسرتها الكبيرة.. الأخوات الخمس والأم العاجزة تعطيهن الأمل نهارا وتبكى هى ليلا وهى تحسب ما دخل جيبها وما يمكن أن تدفعه حتى تستمر الحياة.. نصحها أصدقاؤها بأن تحرك نصبة الشاى التى تنصبها أمام حجرتها الصغيرة التى تقطن فيها وأن تبحث هى عن الزبائن وفكرت فى المكان الذى يجلس فيه عمال التراحيل ينتظرون الرزق تحركت حاملة عدتها البسيطة وابور الجاز والبراد الكبير وصفيحة المياه وبعض الأكواب الصغيرة الزجاجية ومع مطلع الشمس كانت فريدة تفترشالأرض وصوت الوابور يغطى على أصوات زقزقة العصافير التى كانت للتو قد استيقظت وأبخرة المياه تتصاعد من البراد.. كان محمود يرمقها من بعيد ويديها السمراء داخل صفيحة المياه تضع الأكواب داخلها وتخرجها بعد ثوانٍ وقد وضعت برطمانات السكر والشاى جانبها اقترب منها، لا يعرف ما ينوى قوله ولكنه قد عزم على الحديث أى حديث وأن يجلس كى يستريح من المشوار الطويل الذى قطعه من بلدته الصغيرة المتربة حتى القاهرة حاملا أزميل وسكين معجون على باب الله لا يعرف إن كان سيرجع مجبور الخاطر أم أن ضنك الحياة سيلازمه ليوم آخر، وكى لا يفكر فى حظه العثر اقترب منها أكثر وجلس على بعد أمتار منها طالبا كوب شاى وأشعل سيجارة وبدأ ينفث دخانها وبعد عدة ثوانٍ أخرج لفافة من ورق الجرائد مشبعة بالزيت داخلها شطرى خبز عزم عليها بنصف رغيف، فحركت رأسها بالنفى وهى تقول شكرا، فأكل وعندما انتهى من تناوله للطعام وكانالمكان قد بدأ يعج بالعمال، فقال لها: أيه أخبار الرزق هنا يا ست العرايس.. انتبهت فريدة لما قاله فابتسمت ابتسامة صغيرة قائلة: الرزق هنا عال ده أول يوم ليا هنا بس أنا بسمع أن المكان ده معروف قوى وأى حد عايز عمال بيجى هنا.. إنت شاطر فى إيه؟
 
 
فقال: بعرف أمحر وادهن
 
 
فقالت: إن شاء الله حتفرج
 
 
فقال: الواحد ما بقاش عنده أمل فى حاجة ، البلد حالها واقف وأنا كل ما بروح شغلانة ما بعمرش فيها أكثر من يومين
 
 
فقالت: ما حدش عارف بكرة مخبى إيه؟
 
 
فقال: الله.. لسه حد بيقول بكرة
 
 
فقالت: اسمع كلامى بس وإنت حتكسب يا سى..
 
 
فقال: محسوبك محمود
 
 
فقالت: جايه من الحمد شفت بقى الفال
 
 
وما أن انتهت من جملتها حتى اقترب رجل فى الخمسين من عمره من محمود طالبا منه أن يأتى معه للعمل فرمقها محمود بابتسامة ومد يده فى جيبه وأخرج 50 قرشاً ثمن كوب الشاى فقالت له وهى تزيح يده بعيدا: خليها اصطباحة عشان أفتكرك طول اليوم.. وقد أصبحت فريدة جزءاً من المكان منهم من كان يتبارك بها ومنهم من كان يتشاءم منها، فيبعد عنها وينتظر عند مدخل الشارع ظنا أنه يستطيع التحايل على قدره.. كانت دائما وسط العيون عيون هزمتها الحياة فباتت منكسرة وأخرى فى مقتبل العمر تفتخر بما تملكه من صنعة.. فى بداية النهار كانت ضحكات العمال تستقبل يوم جديد وفى المساء كان التعب والإنهاك يظهر على أجسادهم.. لا تعرف فريدة كم مر من الوقت عليها وهى فى المكان.. لم يعد المال هو ما يحركها بل كانت العيون تعطيها صلابة تقوى من عودها.. وسطهم تشعر أن لها قيمة حتى إذا كانت تعطيهم شربة مياه تروى حلوقهم الجافة المتشققة.. كانت تشعر بأنها الحياة.. وفى يوم سمعت صوتاً من خلفها هامسا: ازيك يا ست العرايس فالتفتت لتجده وقفت مليا تحاول أن تتذكر اسمه فبادرها قائلا: محمود أنا جيت علشان أسلم عليك قبل ما أسافر الكويت إنتى كنت وش السعد عليا من آخر مرة شفتك وأنا ما بطلتش شغل كل يوم كان بيمر عليا كان بيبقى أحسن من اليوم اللى قبله ابتسمت ابتسامة واسعة وهو يربت على يديها ثم انصرف.. وعادت لصنع الشاى كانت كالفراشة الرقيقة تنتقل بخفة بعد أن رأت محمود الشاب المنكسر وقد فتحت أبواب الرزق له.. ربما جعل الله منها إشارة أمل تعطى الحياة.