"علي" حبيب العمر

فريدة الشوباشى
كنت فى السادسة عشرة من عمرى عندما وقعت عيناى لأول مرة على حبيب قلبى على الشوباشى، فى شركة أسمنت طرة المصرية، كنت أعمل لأساعد أهلى وجاء يعمل رافضًا استمرار أسرته الارستوقراطية العريقة فى مساعدته ماليا وهو طالب.
بسبب آرائه الاشتراكية، وكل نساء وفتيات الشركة لم يكن لهن حديث فى فترة الاستراحة، إلا الحديث عن جمال على وأدبه الجم، وكنت استمع إلى هذا الكلام من فتيات غاية فى الحسن والجمال وبعضهن سليلات إقطاعيين وباشاوات، ولكن لم يكن ذلك السبب الوحيد فى استبعاد احتمال أى قصة حب بين على وبينى، بل كانت هناك موانع أخرى مثل اختلاف الدين والوضع الاجتماعى. لكونى من أسرة متواضعة.. وأحب تلخيص قصة حبى التى انتصرت على جميع أنواع العوائق فى محطات سريعة تلقى الضوء على جوهرها.. قال لى ذات يوم إنه انبهر بصراحتى وقال لنفسه، البنت دى إما فى منتهى الصراحة وإما فى منتهى الخبث.. كان ردى وعرفت منين إنى صريحة؟.. أجابنى: راقبتك وتابعتك.. بعد حوالى عامين دارت خلالهما مناقشات عديدة بيننا، جاء يودعنى إبان العدوان الثلاثى.. أنا: مسافر فين؟ على: رايح طويحر مع مجموعة فدائيين تطوعنا ضد الاحتلال.
قفز قلبى فرحا بين ضلوعى.. انطلقت شرارة الحب، حبيبى بطل!
.. بعد عودته اعترف لى بحبه، واعترفت له بأننى أبادله الشعور.. وأخبرنى أنه يمكن أن يسجن عشر سنوات لأنه «فى تنظيم سرى لقلب نظام الحكم بالقوة وإقامة ديكتاتورية البروليتاريا»، لم أفهم شيئًا مما قال، وأكدت أن حبى له فوق كل المعوقات.
كانت دهشة زميلاتى الجميلات والثريات، من اختياره لى، أنا التى لا أتمتع بربع جمالهن أو ظروفهن الاجتماعية.. قلت لأهلى إننى أحبه فثارت ثائرة الجميع متوهمين أننى أريد مجرد الزواج، وتقدم أحدهم يطلبنى للزواج فكان قرارنا، على وأنا، بالهرب إلى المنصورة حيث عقدنا زواجنا.
خطفنى أهلى يومًا من الشارع وأجبت بأننى لن أترك على، أيًا كان قرارهم.. فى نهاية عام ٥٨ وقبل انقضاء سنة على زواجنا، تم اعتقال على لانتمائه إلى حزب سرى.. دام السجن خمس سنوات وبضعة أشهر، وحملت فى ابنى الوحيد نبيل، الذى ولد فى نهاية عام ٦٥.. ولكل من كان يسألنى، لماذا تأخرت فى الإنجاب كنت أرد، الولد كان متعطل بقرار جمهورى!! كان على ممنوعا من العمل وطبعا عشنا على مرتبى كمحامية فى الشركة، لأن على شجعنى على الدراسة، وبدأت فى كتابة القصة القصيرة عام ٦٠، وإبان العدوان الإسرائيلى عام ٦٧، اتجهت إلى إذاعتى صوت أمريكا وتل أبيب بحثا عن أخبار الجبهة، وهالنى كم الحقد والعداء للزعيم الخالد جمال عبدالناصر لدى الإذاعتين.. قلت لعلى هؤلاء أعدائى، وهم يكرهونه فإذن هو حبيبى.. نظر إلى على والدموع فى عينيه وقال: نفس سيناريو محمد على يتكرر.. شهادة حق من مناضل مصرى حقيقى. تعالى على جراحه الشخصية وشهد شهادة حق.
شاركنا فى مظاهرات مساء التاسع من يونيو والتى هزمنا خلالها الهزيمة، ومنذ تلك الليلة أصبحت ناصرية، وازداد احترامى وحبى لعلى، لأنه كان يتكلم من منطلق وطنى خالص، وليس بضغينة بسبب سنوات اعتقاله. قلت فى نفسى: ما أروعك يا حبيبى.. وعام ٧٢ أخبرنى على أنه يريد السفر إلى الخارج والبحث عن عمل، خصوصًا وهو يجيد الثلاث لغات، العربية والفرنسية والإنجليزية، إجادة تامة.. وقال لى: فى السنوات السابقة، كنت أزاول نشاطًا سريًا وسجنت، لكنى الآن لا أقوم بأى نشاط سياسى لكن نظام السادات سيعتقلنى بناءً على الملفات الأرشيفية، وقد كان. فبعد خمس سنوات من وجوده فى فرنسا،تمت مداهمة شقتنا فى القاهرة للقبض على «على» بتهمة المشاركة فى مظاهرات الخبز!
لحقت بعلى، مع ابننا نبيل، أوائل عام ٧٣، وعملت لظروف خاصة باذاعة مونت كارلو لمدة ٢٧ عاما وسجلت وقائع هذه التجربة فى كتابى «كاتم صوت» وساندنى على فى كل مواقفى.. ولن أنسى يوم العبور، حين اتصلت وكالة الأنباء الفرنسية بعلى، الذى كان يعمل بها، وأنا أتابع تغير وجهه، تارة شديد الامتقاع وأخرى بالغ الحمار، وهو ينطق بعلامات الدهشة، وبانتهاء المكالمة، نظر إلى بتعبير لن أنساه ودموع الفرح فى عينيه وهو يزف لى أروع نبأ: عبرنا! وهرع على إلى الوكالة لمتابعة الحدث العظيم.. عشنا على وأنا على وقع التطورات على الجبهة وكانت مشاعرنا واحدة وكذلك ردود أفعالنا.. وأعتقد أن هذا التوحد الوطنى كان الأساس الراسخ فى قصة حبى.. عشت معه سنوات طويلة، كان فيها مثالاً رائعًا فى الوطنية والنزاهة والصدق، كان حبيب العمر مثار إعجاب واحترام كل من يقترب منه، وعندما رحل عام ٢٠٠١، كتب عنه العديد من القامات عبارات رائعة، وقال لى ابنى نبيل، تعليقا على ما سجله هؤلاء عن مسيرة والده من خلال دموعه: هذا أجمل ميراث كان ممكن أبويا يسيبهولى.. وتلك علامات من قصة حبى، المستمرة حتى آخر يوم فى العمر.