الخميس 19 سبتمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

هل تمر «صفقة القرن»؟

مساء 28 يناير الماضى، أعلن الرئيس الأمريكى دونالد ترامب،  فى مؤتمر صحفى بواشنطن، «صفقة القرن» المزعومة، بحضور رئيس الوزراء الإسرائيلى المنتهية ولايته، بنيامين نتنياهو، وغياب أى ممثل لفلسطين، وتضمن اقتراحه إقامة دولة فلسطينية «متصلة» فى صورة أرخبيل تربطه جسور وأنفاق، وجعل مدينة القدس عاصمة غير مقسمة لدولة الاحتلال الإسرائيلى.



ورغم الرفض الرسمى الفلسطينى لصفقة القرن؛ فإن خطاب الرئيس محمود عباس ردًا على إعلان صفقة القرن قد أبدى توافقًا مع المطالب الأمريكية فى نقطة واحدة وهو تقاطع رؤية السلطة مع الجانب الأمريكى فيما يخص محاربة حركتى «حماس» و«الجهاد الإسلامى» اللتين أعلن ترامب فى مؤتمره العزم على قطع مصادر تمويلهما، إذ قال عباس فى المؤتمر الذى عقد ردًا على الصفقة: «إننا مستمرون فى سياساتنا الحالية، ومتمسكون بالمفاوضات، وملتزمون بمحاربة الإرهاب».. وسبق هذا التقاطع – المؤقت- تعهد أمريكى مشروط للسلطة الفلسطينية باستئناف دعمها فى حال وافقت على الصفقة، وهو ما يأتى ضمن سياسة الترغيب والإغراء لقبول الصفقة.

بنود «الصفقة»

تتضمن الخطة -التى رفضتها السلطة الفلسطينية وفصائل المقاومة كافة- أن القدس التى تحوى الأماكن المقدسة يجب أن تظل مدينة غير مقسمة، وستظل «عاصمة دولة إسرائيل»، لكنها تدعو إلى الإبقاء على الجدار العازل الذى يقسم المدينة، واعتباره حدًا فاصلًا بين «دولة فلسطين وإسرائيل»، وتدعو لاعتبار عاصمة دولة فلسطين ذات السيادة، فى جميع المناطق الواقعة شرق وشمال الجدار الحالى، بما فى ذلك كفر عقب، والجزء الشرقى من شعفاط وأبوديس، وتطلب من الفلسطينيين أن يسموا تلك المناطق باسم «القدس» إذا شاءوا، أو أى اسم آخر تحدده دولة فلسطين، وفى المقابل ينبغى الاعتراف بالقدس دوليًا كعاصمة لدولة إسرائيل، وينبغى الاعتراف أيضًا بعاصمة دولة فلسطين «سواء سُميت بالقدس أو اسم آخر».. وحال توقيع اتفاقية السلام «الإسرائيلية- الفلسطينية» المزعومة، ستحافظ «دولة إسرائيل» على المسئولية الأمنية العليا على دولة فلسطين، مع التطلع إلى أن يكون الفلسطينيون مسئولين عن أكبر قدر ممكن من أمنهم الداخلى، وفقًا لأحكام هذه الرؤية، وستكون دولة فلسطين منزوعة السلاح بالكامل، وستبقى كذلك مستقبلًا، وسيكون لدولة فلسطين قوات أمنية قادرة على الحفاظ على الأمن الداخلى، ومنع الهجمات الإرهابية داخل دولة فلسطين وضد «إسرائيل، والأردن، ومصر»،  وتتمثل مهمة قوات الأمن فى دولة فلسطين فى الحفاظ على النظام العام وإنفاذ القانون ومكافحة الإرهاب، وأمن الحدود، وحماية المسئولين الحكوميين والشخصيات الأجنبية، والاستجابة للكوارث.

وإذا فشلت دولة فلسطين فى تلبية جميع أو أى من معايير الأمن فى أى وقت، فإن دولة إسرائيل سيكون لها الحق فى عكس العملية المذكورة أعلاه؛ ما يعنى أن البصمة الأمنية لدولة إسرائيل ستزداد فى كل أو أجزاء من دولة فلسطين نتيجة لتصميم دولة إسرائيل على احتياجاتها الأمنية الموسعة والوقت اللازم لمعالجتها.. وستصبح الجيوب الإسرائيلية الواقعة داخل الأراضى الفلسطينية المتجاورة جزءًا من دولة إسرائيل وسيتم ربطها من خلال نظام نقل فعال، وسيكون غور الأردن (ثلث مساحة الضفة الغربية تقريبا)، وهو حاسم للأمن القومى لإسرائيل، تحت السيادة الإسرائيلية، ولن يكون هناك أى حق فى العودة أو استيعاب أى لاجئ فلسطينى فى دولة إسرائيل، بحسب ما تنص عليه «صفقة القرن».

«سجن الضفة»

وفق اتفاقية أوسلو الثانية 1995، تم تقسيم الضفة الغربية إلى 3 مناطق «أ» و«ب» و «ج»: «المنطقة «أ» تمثل 18 % من مساحة الضفة، وتسيطر عليها السلطة الفلسطينية أمنيًا وإداريًا، و«ب» تمثل 21 % من مساحة الضفة وتخضع لإدارة مدنية فلسطينية وأمنية إسرائيلية، وتمثل «ج» 61 % من مساحة الضفة تخضع لسيطرة أمنية وإدارية إسرائيلية.

 وفعليًا إذا تم ضم أكثر من 40 % من أراضى (ج) بالإضافة إلى المستوطنات الإسرائيلية، فهذا يعنى على أرض الواقع تقطيع الضفة إلى «كانتونات»، وهو ما يعنى أن أى دولة فلسطينية ستقام، لن يكون لها أى تواصل جغرافى حتى مع دول الجوار، كما ستكون منطقة الأغوار التى تشكل 27 % من مساحة الضفة الغربية، وتعد السلة الغذائية للضفة، تحت سيطرة الاحتلال الإسرائيلى. كما تسمح الخطة لإسرائيل بضم ما بين 30 و40 % من أراضى المنطقة «ج»، والتى تشكّل 61 % من مساحة الضفة، وتخضع لسيطرة أمنية وإدارية إسرائيلية كاملة، ما يستلزم موافقة سلطات الاحتلال على أى مشاريع أو إجراءات فلسطينية بها، وعليه فإن الاقتصاد الفلسطينى المستقل فى أراضى الضفة لن يكون له وجود، فكل شيء سيكون تحت سيطرة الاحتلال.. أما ما تبقى من أراضى (ج) بحسب الصفقة، وهو ما نسبته 20-30 %، فسيكون لتوسيع بعض المناطق غير الحيوية وغير ذات أهمية أمنية أو اقتصادية لإسرائيل، ويمكن من خلالها توسيع مخططات المدن الفلسطينية، وستكون الأماكن المقدسة تحت السيطرة الإسرائيلية تمامًا، فالدخول والخروج منها بإذن إسرائيل، أما الدولة الفلسطينية بمفهوم القدس الشرقية العاصمة، وفقًا للقرارات الدولية، فهى والعدم سواء.. وفيما يخص الأراضى التى تسيطر عليها السلطة الفلسطينية فستكون محاطة بإسرائيل، وتستطيع إسرائيل أن تغلق أى منطقة بكل سهولة لأن لها السيادة التامة على المناطق الاستراتيجية فى الضفة الغربية، أى أنها تسيطر بشكل كامل على الماء والذهب الأبيض «المحاجز» وسلة الغذاء الفلسطينى (منطقة الأغوار)، والموجودون فى هذه المناطق عليهم العمل إما داخل إسرائيل أو الهجرة نحو الخارج، وهو ما يعنى تحويل الضفة إلى «سجن كبير»

والحقيقة أن تقسيمات أوسلو من الأساس لا توجد سوى على الخرائط، فإسرائيل تدخل مناطق «أ» كما يحلو لها وقتما تشاء تعتقل وتهدم وتفعل كل ما تريده، وليس هذا فحسب؛ بل إن الأحزاب الإسرائيلية «اليمن واليسار» تتفق على  دولة فلسطينية تقام فى الأردن، وأن القدس ليست عاصمة إلا لدولة واحدة وهى الدولة العبرية، فإسرائيل ببساطة تريد«دولة يهودية عبرية نقية».. إلى ذلك، تطرح الصفقة المزعومة مدّ نفق بين غزة والضفة الغربية كممر آمن. إلا أن هذا البند، لن يلقى قبولًا إسرائيليًا، ففى السابق كان هناك حديث إسرائيلى عن الربط بين غزة والضفة عبر جسر فوقى، والآن يتم الحديث عن مدّ نفق بينهما، لكن إسرائيل لا تريد أيًا منهما، ولن تقيم نفقًا ولا جسرًا للربط بين الضفة والقطاع، لأنها غير معنية بالتواصل الجغرافى بينهما أساسا، فالصفقة تحاولة شرعنة الأمر الواقع الذى فرضته إسرائيل من خلال تمزيق جغرافيا الضفة الغربية، وقطع خطوط التواصل بين المدن عبر المستوطنات والحواجز الإسرائيلية. والحقيقة أن  الإعلان الأمريكى عن صفقة القرن لم يشكل مفاجأة للفلسطينيين، على الأقل بالنسبة للسلطة والفصائل الفلسطينية، التى أظهرت رد فعل باهتًا على الخطة الأمريكية، ورغم الموقف الفلسطينى الرسمى الرافض بصرامة لصفقة القرن، فإن خطاب محمود عباس لم يخلُ من وجود رغبة علنية فى إفساح المجال أمام فتح باب التفاوض مع الجانبين الإسرائيلى والأمريكي؛ رغبة فى الحصول على أكبر قدر من المكاسب من هذه الصفقة، وهو أمر غير متوافر فى هذه اللحظة، إذ إن أبرز ما يميز صفقة القرن هو وجود بصمة اللوبيات الصهيونية، التى استغلت كل أوراق اللعبة لصالح إسرائيل، بدءًا بملف الاعتراف بالقدس عاصمة لها، مرورًا بملف اللاجئين الذى يمهد لتصفية عمل الأونروا فى الأراضى الفلسطينية، وأخيرًا اعتراف الخارجية الأمريكية بما تسمى المستوطنات «غير الشرعية» فى الضفة الغربية، وحصار السلطة ماليًا.

وسبق أن لوَّح مسئولون فلسطينيون مرارًا، ومن ضمنهم الرئيس الفلسطينى محمود عباس، بخيار الدولة الواحدة إذا فشل حل الدولتين.. ويفترض هؤلاء المسئولون أن خيار الدولة الواحدة سيحرج إسرائيل، لأن الدولة المقترحة ستضم عرب 48 وفلسطينيي الضفة والقطاع فى دولة واحدة مع اليهود، وهو ما يهدد الأغلبية اليهودية، وقد يجعلها دولة عنصرية تتعرض لإدانة عالمية، لكن يبدو أن صفقة القرن تعالج هذه المخاوف الإسرائيلية بتأسيس دولة فلسطينية متقزمة ومنزوعة السيادة فى الأراضى الفلسطينية ذات الكثافة العالية، والاستيلاء على الأراضى ذات الكثافة المنخفضة وضمها لإسرائيل.

سيناريوهات التنفيذ والرد

على الورق قد يبدو أن صفقة القرن تحاول إرضاء الطرفين، لكنَّها فى الواقع أقرب إلى حلِّ دولةٍ واحدة يستتر خلف قناع حل الدولتين؛ إذ تنحاز الخطة بشدة إلى مطالب دولة الاحتلال، وتتجاهل إدراج المطالب الفلسطينية فى معظم بنودها، فهى ليست خطة سلام بقدر ما هى شرعنة للوضع الراهن، الذى تُعَد فيه إسرائيل الطرف الأقوى فى المفاوضات المستمرة منذ عقود، وربما يكون توقيت إعلان الخطة بمثابة دعمٍ انتخابى لترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو، فكلاهما يواجه تحدياتٍ سياسية فى مساعيه إلى إعادة انتخابه فى العام الجارى 2020، لا سيما أنَّ الحكومة الإسرائيلية أوضحت أمس أنَّها تعتزم الشروع سريعًا فى ضمِّ الأراضى التى تقترح الخطة ضمها.

خطة ترامب لا يبدو أنها تضع العاصمة الفلسطينية داخل الحدود التقليدية لمدينة القدس، ويبدو كذلك أنَّها تمنح الفلسطينيين مساحةً أكبر من الأراضى ممَّا يمتلكونها حاليًا، وتُجمِّد النشاط الاستيطانى الإسرائيلى فى أثناء إجراء المفاوضات. وتشمل أيضًا العديد من التنازلات الاقتصادية للفلسطينيين فى شكل مِنح وقروض ومساعدات تصل إلى 50 مليار دولار إذا امتثلوا لشروط الخطة، التى تتضمَّن التخلى عن النضال من أجل الحصول على مزيدٍ من الأراضى.

وتخيب الخطة من أمل الإسرائيليين الذين يفضلون ضم كل الأراضى الفلسطينية. أمَّا بالنسبة للفلسطينيين، فتقترح الخطة تبادلًا للأراضى من شأنه أن يمنحهم مساحةً عامة أكبر من تلك التى يسيطرون عليها الآن، لكنَّها تنص على التنازل عن بعض الأراضى الصالحة للزراعة مثل وادى نهر الأردن، الذى تُعطى الخطة إسرائيل الحق فى ضمِّه، مقابل الحصول على أراضٍ صحراوية، ولا تتضمَّن الخطة كذلك بندًا لإعادة اللاجئين إلى الأراضى الإسرائيلية. كما أنه ليس من الواضح مَن الذى سيُموِّل الخطة فى نهاية المطاف، بما فى ذلك التنازلات الاقتصادية التى وعدت بتقديمها للفلسطينيين، مع أنَّ إدارة ترامب طلبت المساعدة من بعض دول الخليج العربية الثرية.

يأتى ذلك فى الوقت الذى تأمل فيه القيادة الفلسطينية أن تسفر الانتخابات الرئاسية الأمريكية والانتخابات العامة الإسرائيلية المقرر إجراؤهما فى العام الجارى عن شركاء أكثر وديةً فى التفاوض، ولكن بينما ينتظرون الانتخابات، قد تتفاقم الأوضاع الاقتصادية والأمنية الفلسطينية.. وبالرغم من أن القيادة الفلسطينية سترغب فى التصدَّى للخطة، لكنَّ قدرتها على ذلك محدودة، لا سيما أنَّ الفصائل السياسية الفلسطينية تحاول الحفاظ على الدعم الذى تحظى به بين بعض دول الخليج العربى وتركيا، التى لن تدعم أيّ منها العنف المباشر ضد إسرائيل، لكنَّها من المرجح أن تغض الطرف عن المظاهرات الشعبية بالضفة الغربية وقطاع غزة ضد الخطة، والتى قد تتحول إلى أعمال عنف.. وعلى الضفة الأخرى للنهر يُمكن أن تُقدِّم الخطة دفعةً صغيرة لنتنياهو أو منافسه بينى جانتس فى الانتخابات الإسرائيلية المقرر إجراؤها فى 2 مارس 2020، وستساعد ترامب أيضًا على كسب دعم الجزء المؤيد لإسرائيل من قاعدته قبل الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقرر إجراؤها فى نوفمبر المقبل، لكن أخطر تداعيات الصفقة هو إضفاء شرعيةً على عملية الضم الإسرائيلى لأراضى الضفة الغربية الذى يُعد أمرًا واقعًا منذ سنوات.