الأدب لـه آبــاء ولـه أمهات أيضا!

عزة بدر
أنشودة صامتة لبطلة رواية صماء بكماء تفجر حوارات صاخبة عن وضع المرأة، وتكشف عن أزمة مجتمع فى التعامل مع النساء سواء كان ذلك فى الماضى البعيد أو الآن.. الرواية للأديبة الإيطالية «داتشيا مارايينى» والرواية بعنوان: «حياة ماريانا أوكريا» وهو العمل الأدبى الذى يترجم لأول مرة إلى العربية للكاتبة، وترجمته إلى العربية د. نجلاء والى.
وتضمن الاحتفال بالكاتبة والذى تم بالمعهد الثقافى الإيطالى بالقاهرة وفى مكتبة الإسكندرية قراءات شعرية لداتشيا مارايينى وحوارات حول سيرتها الأدبية.
∎ المعرفة والجسد
صحيح أن أحداث الرواية تدور فى القرن الثامن عشر وبطلتها امرأة إيطالية حقيقية صماء بكماء جسدت الكاتبة معاناتها إلا أن الرواية تثير العديد من القضايا المتعلقة بوضع المرأة بصفة عامة، وتعطى الرواية ثمار دهشتها بسخاء فتقول: «العقل لابد أن يكون عبدا للعاطفة»، «العقل لا يمكن أن يكون وحده سبب الإرادة»، «الجحيم إذا ما زرناه أحياء كما فعل دانتى يمكن أن يكون مسليا»!.
سألت داتشيا مارايينى عن تلك الحريات الخاصة التى أعطتها لبطلتها الصماء البكماء.. عن الأفكار الحرة التى خصتها بها دون جميع شخصيات الرواية.
فقالت: «جعلتها تقرأ ما كتبه ديفيد هيوم من فكر ثورى، حيث قال إن المعرفة تبدأ من الجسد، قبل هيوم كانت معانى الشرف والنبل فى الجزء العلوى من الجسد، أما الجزء السفلى منه فلا ينبغى أن نتحدث عنه، بعد هيوم تغير كل هذا حيث رأى أن المعرفة لابد أن تمر بجميع حواس الجسد».
فى روايتها تحرر الصماء البكماء ابنتها تقول لها: «اكتبى خطابك لحبيبك.. لن أنظر إليك» تجذب رأس المرأة الشابة إلى صدرها تحتضنها بقوة تشعر أنها لا تزال أسيرة إحساس جامح يهزها يغرغها ويتركها منهكة! ولكنها تحثها أن تكتب الخطاب لحبيبها المتزوج».
وفى نفس الوقت تردد بقلق: «العقل يجب أن يكون فقط عبدا للعواطف ولا يمكن أن يتخذ وظيفة تختلف عن خدمة العاطفة وطاعتها وهذا كل شىء».. ياله من مرح.. ماذا يعلم عن امرأة بكماء يعذبها الكبرياء والشك؟!
ثم تصل بطلتها تلك إلى قمة ضعفها الإنسانى معانقة لحظات الكبرياء والضعف معا، فتردد: «إذا كانت روحى تستطيع عناقك لحظة واحدة ثم أموت بعد ذلك»!
سألتها: هل بطلتك ماريانا أوكريا حقيقية؟!
فقالت: هى امرأة حقيقية عاشت فى القرن الثامن عشر والتفاصيل من اختراعى وقد قمت بعمل بحث تاريخى لهذا العصر استغرق خمس سنوات.
تحدثت داتشيا عن الرواية وكيف تكتبها، فقالت: الرواية بمثابة شخص يصل إلى بيتى يدق بابى وأبدأ بتقديم الضيافة المعتادة له فيحكى له قصة، وقد لا ينصرف ويطلب العشاء ويبقى ليعيش فى حجرة أفكارى.. ساعتها أكون مستعدة لكتابة هذه الرواية.
قلت لها: فى روايتك «ماريانا أوكريا» اهتمام واضح بقضايا المرأة- حتى فى بعدها الزمنى القديم- فماذا تحتاج إليه المرأة الآن؟
قالت: «مهما غيرتنا القوانين فستظل المساواة بين الرجل والمرأة على الورق فقط إذا لم نغير ثقافة الرجل وثقافة الطفل لن نستطيع تربية جيل يحترم المرأة، سيكون التمييز من ناحية الرجل والمجتمع حتى لو توافرت القوانين اللازمة لضمان المساواة، وكما قالت الأديبة الفرنسية سيمون دى بوڤوار «لا نولد نساء ولكن أصبحنا نساء».
بما يعكسه المجتمع على ذواتنا، المشكلة أن المرأة أدركت حقوقها ولكن بعض الرجال لم يقدروا ذلك ومن هنا يأتى النزاع، لابد أن يتطور المجتمع مع مقتضيات العصر وإذا لم يتقدم المجتمع فسيعود إلى الوراء يتقهقر أو يندثر! الحكاية ليست حربا ولكن يمكن الحصول على العدل والمساواة عن طريق الحب واقتسام الواجبات بشكل عادل، وعدم استخدام جسد المرأة فى الإعلان عن جورب أو غيره لأن هذا امتهان للمرأة ويعاملها كأنها سلعة.
∎ أدب الناسكات
سألتها عن بداياتها ورحلتها مع الكتابة.
فقالت: «كنت أقرأ دائما لكتاب من الذكور وكنت أبحث عن كتابة الأديبات، كنت أقول إن الأدب له آباء ومن حقه أن يكون له أمهات، فى إيطاليا كان هناك أدب الأديرة، نصوص كانت تكتبها الراهبات تسمى بأدب «الناسكات» وكان على درجة عالية من الجمال- أدب يرجع تاريخ كتابته إلى عام 0021م- ولكن لم يفكر أحد بنشره.
سألتها عن روايتها الأولى، وعن مدى تأثرها بالأديب الإيطالى الشهير ألبرتو مورافيا، فقد جمعهما حب كبير دام خمسة عشر عاما.
فقالت: عندما عرفت مورافيا كنت قد كتبت روايتين، وقد عرفته عندما ذهبت لنشر أول رواية منهما، فطلب منى صاحب دار النشر أن يكتب مورافيا تقديما لها، وبالفعل قدمها ألبرتو مورافيا واستمرت علاقتنا 51 سنة، هو لم يكن يحب دور المعلم ولكنه كان يعطى لنا ككتاب أمثلة جديدة ذكية، فقد كان مهتما بالحياة الاجتماعية لبلادنا وللعالم ككل، وكان ملتزما بمشاكل مجتمعه ولديه أمانة أدبية عالية، كان رجلا جذابا يحب القراءة والسفر والرحلات، كان يقرأ رواياتى بعد انتهائى من كتابتها وليس قبل ذلك، قرأ لى خمس روايات، وقد أصدرت بعد وفاته سبع روايات، بالإضافة إلى أعمالى القصصية ومسرحياتى.. زرت القاهرة معه وكان معنا الشاعر والكاتب باولو بازولينى، أما هذه المرة فهى الزيارة الرابعة لى للقاهرة.
دائما أحلم وأنتبه من الحلم على صوت ألبرتو مورافيا وهو لايزال معى ويطلب منى أن نذهب فى رحلة إلى أوغندا أو تنزانيا مثلا.
∎ أحلامى مع مورافيا
واستطردت داتشيا تحكى، ود. نجلاء والى تترجم لى كلماتها الإيطالية إلى العربية عن أحلامها مع مورافيا والتى سجلتها فى كتابها «الحفل الكبير» كان موت مورافيا يشبه شخصيته التى تتميز بالعقلانية والصراحة، كان موتا بدون مقدمات، بدون مستشفيات، بدون أنابيب ولا خراطيم، موت لحظة واحدة، حلمت به يقول لى:
«أنا أشعر بالبرد.. غطينى» وفى حياته لم يكن يشعر بالبرد بل كان يرتدى الملابس الخفيفة رأيته رأى العين قبل وفاته بليلة وتناولنا الغداء معا، وفى اليوم الثانى علمت نبأ وفاته فلم أصدق، لقد كان يمثل لى الخلود، لم أكن أفكر بموته، كنت فى داخلى أفكر بأنى سأموت قبله وأنه سيكمل حياته المنظمة بعدى: الكتابة فى الصباح، ومشاهدة الأفلام السينمائية فى الظهر والخروج مع الأصدقاء فى الليل، خبر وفاته كان لكمة فى صدرى، وغدر زمن أغلق فى وجهى بابا كنت أظنه مفتوحا لى دائماً كأننى تعثرت وأنا واثقة من خطوى فى الطريق فى أحلامى أعد الحقائب وقمصانة الخفيفة وقبعات الشمس وماكينات التصوير وأقول له هيا إلى الرحلة ثم أستيقظ فأجدنى وحيدة فى سرير تغطيه الكتب».
∎ جنة ونار
سجلت داتشيا أيضا فى كتابها أحلامها مع أعز الناس الذين فقدتهم: أختها وصديقتها مغنية الأوبرا الإيطالية الشهيرة «ماريا كالاس»، وكذلك مع بازولينى الذى كان صديقا لها ولألبرتو مورافيا، كتابها: «الحفل الكبير» يضم أحلامها التى تتجدد مع الذين رحلوا من الأحباب فهى تؤمن بأفكار مسرح «النو» اليابانى الذى يرى أن الموت هو شرفة تعلو بيت أفكارنا والموتى لهم مكان عبارة عن جزيرة حدودها لا متناهية، تهب فوقها رياح عذبة طيبة والجزيرة تستدعى على ضفافها الموتى الذين تربطهم بالأحياء صلة.. أشياء معلقة، مشروعات، وعود، قصة حب لم تكتمل، ذكرى، يأتى الأموات مرتدين ملابس أنيقة زاهية الألوان يتبادلون أحاديث ودية مع الأحياء الذين يردون عليهم بهز رؤوسهم باحترام أمام هذا الوجود الغامض لظهور الموتى الذين معهم رسالة ما جدية بأن تصل إلى الأحياء ولكن لغتهم تشبه المكان الذى يعيشون فيه جزر مبعثرة فى المياه بحدود لا متناهية، بعض الناس تسمى هذه الجزر جنة وبعضهم يسميها نار، الاحتفاظ بذكريات عمن رحلوا والحفاظ على هذه الحلقة فى التاريخ الإنسانى مهمة لاستمرار الحياة.
ويبدو أن هذه العوالم البعيدة الغامضة تؤثر فى العالم الإبداعى لداتشيا مارايينى لأنها صورت هذه العلاقة الهادئة مع الموت، العلاقة الخالية من الجزع والخوف فى قصائدها فهى تقول فى قصيدتها: «كالأسماك تحت المياه».
كل حين فى المساء
يأتون لزيارتى
يرتدون أحذية من الخرق
لا يستطيعون السير بها
ولكنهم ياللعجب يغنون
أصواتهم تشبه الأسماك تحت المياه
كمن يألف أصوات الصخر
والقمر الوليد
كل حين يأتون لزيارتى ليلا
أختى بعنق فراشة
وأبى بابتسامة فيل
لا يسألونى ردا
لا يطلبون منى الذهاب معهم
يجلسون كما فى أيام
النزهات الخلوية
على نهر كاريساو
فوق إحدى الصخور
ويغنون
مثل أسماك البربون تحت المياه بأفواه مغلقة».
وتتحدث داتشيا عن علاقتها بالشعر فتقول: «إن الشعر والنثر ينتميان إلى عالمين مختلفين فالنثر وسيلتنا لإطالة الزمن، والقصيدة هى لحظة أو مفاجأة لرؤية الإلهام.
هكذا تحدثت داتشيا ماريينى الكاتبة والشاعرة فهى واحدة من أهم الكاتبات الإيطاليات الآن، كتبت 21 رواية، و4 مجموعات شعرية، وعدة مسرحيات، وترجمت أعمالها إلى أكثر من عشرين لغة ونشرت روايتها «الإجازة» عام 2691، وفازت بالعديد من الجوائز منها جائزة كامبيللو عن روايتها «حياة ماريانا أوكريا»