«تغريدة طويلة معها على الهواء بين القاهرة ولندن» الشاعــرة سعــاد الصبــاح: ذهب الطغاة وبقيت مصر

مفيد فوزي
ليس بالضرورة أن يكون السفر انتقالا جغرافيا بسيارة أو قطار أو طائرة إذ قد يسافر الإنسان أميالا وأميالا فى المكان والزمان الواحد لقد قلقت على صديقة عرفت عن طريق أصدقاء مشتركين أنها فى منتجع صحى فى لندن، فبادرت بالسؤال وجاءنى صوتها مهموما مما يحدث فى مصر الآن وقلت للصديقة الكبيرة سعاد الصباح متى أستطيع أن أتحدث معك هاتفيا، فقد طال الشوق للحديث بعد انقطاع اضطرارى لعامين، باستثناء مقابلة خاطفة فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية وكنت تكرمين، قالت سعاد الصباح «ساعات المساء أفضل» صحيح أن سعاد الصباح شاعرة فنانة ولكنها تخضع نفسها لنظام صارم يمنحها الحرية فى العطاء لرأى وجه من وجوه حياتها بإخلاص وفى المساء الليل يرتدى عباءته رن الموبايل فقرأت اسمها على شاشته د.سعادالصباح وبدأت أطول تغريدة بين القاهرة ولندن.
∎لقراء الإنترنت
لقراء النت الذين لا يعرفون سعاد الصباح جيدا:
1ــ إنها واحدة من أميرات الشعر فى العالم العربى ولها دواوين ورقية تضم عصارة أحاسيس امرأة عربية نصف وزنها كبرياء.
2ــ «سعاد الصباح سيدة فى الذاكرة» هذا تعبير الكاتب الناقد فضل الأمين وهو الذى أطلق عليها شاعرة الانتماء الحميم تستدعيه ذاكرتى.
3ــ هى «نجمة» كل عيد للكتاب فى زمن الراحل د.سمير سرحان، حيث كانت تقرأ قصائدها لآلاف المحبين ويتمايلون معها.
4ــ هى التى أعادت طبع مجلة الرسالة فى شكل فاخر، والرسالة كانت أيقونة المجلات الأدبية المؤثرة فى الوجدان يكفى أنها أيقظت مطبوعة أدبية مصرية كانت لسان حال الصفوة.
5ــ هى التى قامت بتكريم قامة مصرية غزيرة الثقافة هو الدكتور ثروت عكاشة فى حفل أنيق وكان أولى أن يتم التكريم من وزارة الثقافة فى مصر.
6ــ «جوائز سعادالصباح» مشروعها الثقافى الذى اجتذب الشباب العربى.
7ــ هى القائلة إنى أحمل أحزانى إلى مصر لأنها أكثر البلاد فهما لطبيعة الحزن وأحمل إليها مدامعى لأنها تعرف جيدا من أين تأتى الدموع، وأرفع فوق أهراماتها بيارق حريتى لأنها معلمة الحرية.
∎ذهب الطغاة وبقيت مصر
قلت لها: مما تشكو الصديقة الصديقة؟ قالت: أنت تعلم أنى لم أعتد الشكوى. قلت: ولكنك فى منتجع صحى، قالت: فقط هناك مراجعات طبية يفرضها الزمن. قلت: هل تشكين من صداع؟. قالت: أشكو من صداع فى رأس العالم العربى وانسداد فى شرايين الخريطة العربية، تلك هى شكواى الحقيقية.
قلت لسعاد الصباح: كيف سيدتى ترين مصر من بعيد؟ قالت: حسنا أنك أردتنى أن أراها «من بعيد» سأذهب إلى البعيد، إلى أبعد نقطة ممكنة سأذهب إلى قبل الميلاد، إلى خمسة آلاف سنة مضت على عمر الحضارة المصرية. فقاطعتها وبعد..؟
مضت تقول خلال هذا الزمن السحيق مرت بمصر كلأنواع العواصف والفيضانات، ذهبت الأعاصير والزلازل وذهب الطغاة وبقيت حضارتها. وجدت نفسى أردد عبارتها العميقة الدلالة.
∎أنا شجرتى: مصر
قلت للشاعرة العربية الكبيرة مصرية الهوى، هل تذكرين آخر مرة التقينا فى مصر؟ قالت: نعم كان فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية التى تخرجت فيها أثناء الاحتفال بجائزة الأميرة فاطمة، هذه الجائزة التى أعتز بها اعتزازا كبيرا وأصارحك كنت أبحث عن سبب يأتى بى إلى مصر. قلت: هل تشعرين بشوق لبلد يسكن قلبك؟ قالت: كل أنواع الشوق، فأنا طائر فرد جناحيه فى الفضاء الفسيح، لكنه مهما طار لابد من شجرة يأوى إليها وأنا شجرتى مصر. قلت لها: ألم تلاحظى يا دكتورة سعاد أن صورة عبدالناصر كانت دائما فى المظاهرات الشبابية فى مصر؟ ما تفسيرك؟ قالت الدكتورة سعاد الصباح: عبد الناصر تعدى كونه شخصا أصبح فكرة وجدتنى أردد وراءها العبارة البليغة: عبدالناصر كونه شخصا أصبحفكرة.
∎لا أخاف على الإبداع
قلت لسعاد الصباح: هل تخافين على الإبداع من التيارات الإسلامية وكيف مواجهة التشدد للإحكام على الأدب والشعر والفن؟
قالت: أنا لا أخاف على الإبداع من أى تشدد. فالتشدد ضد نفسه أما الإبداع فشجرة عظيمة.. ضاربة فى السماء.. يرمونها بالكرة فتسقط عليهم أجمل الثمر. قلت: أنت شاعرة وحساسة ولا أدرى كيف تستقبلين مظاهر العنف فى العالم وفى كل مكان مثلا قتلى مصر وحادث الاغتصاب الجماعى فى الهند؟ قفزت سعاد الصباح بالإجابة ربما قبل أن أكمل السؤال لا أستقبلها بل أطردها من خيالى. قلت: يتقلص دور المرأة المصرية فى المجتمع، فهكذا كان نصيبها فى زمن الإخوان: ما تعليقك؟ قالت بسرعة: لم أستمع جيدا نهاية سؤالك، قلت هكذا نصيب المرأة فى زمن الإخوان. قالت: لا يمكن لامرأة أن يتقلص دورها بعد أن اعتادت على صناعة التاريخ والرجال، حتى وهى تعجن عجينها أو تلف لطفلها سندويتش المدرسة.
∎تعطلت لغة الفهم
قلت للشاعرة الكويتية: هل قريحتك الشعرية انفعلت بما يجرى فى مصر، فكتبت شيئا نثرا أو شعرا أم «تعطلت لغة الكلام»؟ أجابت وهى تضحك «تعطلت لغة الفهم» أكثر، الصداع الذى يسرى فى عروق مصر يتسلل إلى عروقى، كتبت مئات الأسطر سمعت فيها ألم كل المصريين وسكبت الكثير من الحبر ورأيت فيه دموع المصريات حتى اختلطت الحروف بالحروف وسال الحبر على كل الرفوف.
قلت لها: التكنولوجيا تتقدم بصورة مذهلة لقد وصلنى للتو «صور شخصية» لك على الإيميل فى الآى باد، ألا تخشين على الورق فى الكتب والصحف من الكتاب الإلكترونى وأين مكان الشعر فى هذا الزمن؟ قالت: الكتاب الإلكترونى لم يعد يهدد، فقد نفد تهديده وأصبح واقعا لكنه وإن زاحم الورق لم يستطع إلا أن يستسلم للشعر. قلت: منحازة أنت للشعر؟ قالت بسرعة: الشعر دوما فى الصدارة.
∎الاعتداء على القيم
قلت لسعاد الصباح: الخير والصداقة والود والسماحة هل تتعرض للاعتداء على هذه القيم؟ قالت: وكلما تعرضت قيم الخير لاعتداء أشرق وجهها بالجمال أليس «الضد يظهر حسنه الضد». قلت: ولكن هل تغير الناس مثلما تلاحظين أم هى ضريبة الحياة فى ذات الإيقاع السريع والنمط الأمريكى، ردت بصوت متفائل أدهشنى هو فيلم أمريكى طويل والوقت المتبقى منه قليل قلت: وسط هذا الفيلم الطويل ورغم صداقاتك المختارة هل تشعرين بالوحدة؟ وكيف تنتصرين عليها؟ قالت سعاد الصباح: إطلالة فى عيون أحفادى تبدد كل وحدة، قلت لها وصرت يا دكتورة جدة، قالت بسعادة: نعم تولد الحياة فى الشريان مرتين، وهأنذا استشعر أن دمى يتجدد كل صباح مع شهقتى بأسمائهم، يا الله كم هى رائعة أن تكون الأم جدة، أنها الأمومة مرة ثانية، قلت لها: أتذكرين يوما منا فى الكويت واصطحبناك المصور فاروق إبراهيم وأنا إلى المطار وكنت ذاهبة لوداع أحد أحفادك المسافر إلى لندن؟ صمتت ثوانى وقالت بصوت مبلل بالشجن: «أذكر».
∎المهم أن ديننا بخير
قلت للشيخة الكويتية «أم مبارك» التى تملك صلابة الرمح: المؤسسات الدينية الآن فى مصر لا تستقر فوق مقعد مريح، إنها تجلس فوق الشوك، قالت سعاد الصباح: المهم أن ديننا بخير وهو كفيل بتنقية نفسه بنفسه، قلت لها: هل عبر شباب الربيع العربى حاجز الخوف والاحترام؟ قالت: عبروا الحاجز الأول و «كسروا» الحاجز الثانى، قلت لأم مبارك: قال العالم المصرى فاروق الباز فى أحد تحليلاته العاطفية أن جيلنا تخاذل فقام الشباب بالثورة، هل تخاذل جيلنا؟ قالت سعاد الصباح بعبارة صريحة كان خذلانا ولم يكن تخاذلا.
قلت لها: «أم مبارك» أحلى الألقاب عندك وربما لا يعرف الكثيرون؟ قالت بابتسامة: فأنا أشعر عبر الصوت متى تنتشى الكلمات ومتى تختنق فى الزور الحاضر يعلم الغائب.
∎أسرار الآخرين
قلت لسعاد الصباح: متى تصرخين بلسان امرأة؟ قالت: من أجل الوطن أولا، والطفل ثانيا والمقهورة ثالثا والمقهور رابعا والجريح الوجدان خامسا، قلت لها: هل صرخت فوق الورق وأنت تكتبين سيرتك الذاتية، وهل هناك ما تحتفظين فى نفسك؟ قالت الشاعرة: منذ سنوات وأنا أكتب، اكتشفت أن الزمن الذى نكتبه أطول من الزمن الذى نعيشه المهم فى الكتابة أن أحفظ أسرار الآخرين أما أنا فكنت دوما فى الشعر والنثر كتابا مفتوحا للمحبين، قلت لها: ما معنى التحضر فى التعامل مع المرأة؟
قالت: أن نتعامل مع المرأة كما نتعامل مع باقة الورد، قلت لها:شرطان ضروريان فى كل مؤسسة زوجية؟ قالت أم مبارك: أنا لا أستطيع أن أحب رجلا لا أحترمه، ولا أن أكون فى كنف رجل لا أشعر بسموه النفسى والخلقى والحضارى ولا يغطينى بجناح شهامته وفروسيته.
∎ما ظلهم على سعاد
قلت للشاعرة سعاد الصباح: ما ظل هؤلاء عليك؟ استأذن فى السؤال، قالت الشاعرة: سبق أن قلت لك لا تستأذن فى السؤال قلت ما ظل غادة السمان عليك؟ قالت بهجة الأدب وبهجتى الخاصة. قلت لها: ونزار قبانى؟ قالت: شاعر الأجيال وشقيق ذائقتى الشعرية، قلت وصلاح عبدالصبور؟ قالت سعاد: كان الأستاذ وشجرة الصبار فى الصحراء العربية قلت وأمينة السعيد؟ قالت: لها من اسمها الأول النصيب الكبير وأهدتنا نصيبها من اسمها الثانى قلت بإعجاب: سعدت بهذا الوصف ربما لجيل لم يعرف أمينة السعيد ولم ينصفها وتابعت.. ما ظل الشاعر عبدالوهاب البياتى عليك؟ قالت: حلم دجلة، وحزن الفرات.
∎من هنا مدخل تميزك
قلت للشيخة سعاد الصباح كما يطلقون عليها فى الكويت جوائز سعاد الصباح هل يتم تطويرها، وماذا بعد الجائزة فى حياة الفائز؟
قالت: بدءا من العام المقبل ستبدأ آلية جديدة أكثر مواءمة مع الواقع وفكرة متابعة حياة الفائز مهمة الدار إعلاميا، أما الجائزة فتفتح له الباب وتقول له من هنا مدخل تميزك وعليه أن يكمل الطريق قلت لسعاد الصباح: إن الشعوب تغفر وأنا أريد أن أسألك: هل لا تزال هناك ندبة ما من آثار العدوان والغزو العراقى؟
قالت الشاعرة الكبيرة: بعض الجروح آثارها البعيدة أقسى من آثارها الآنية والمغفرة دواء يشفى بعض الألم، وصمتت سعاد الصباح ثوانى بعدها قالت: أسر لك بأمر أفرحنى يا أستاذ مفيد.. أن الفائز بجائزة سعاد الصباح فى الشعر لهذا العام شاب من.. العراق!.
∎وإن طال العزوف
قلت لسعاد الصباح: ماذا تقولين؟
ـــ لعروس فى مطلع حياتها الزوجية؟
قالت: تعلمى كيف تظلين «عروسا» بقية العمر.
ـــ لشاب عزوف عن الزواج؟
قالت: لابد من ملاذ وإن طال العزوف.
ـــ لناشط سياسى فى حيرة وضبابية؟
قالت: إن كان المستقبل ضبابيا فإن التاريخ واضح.
ـــ لمشروع شاعرة صغيرة؟
قالت: الشاعرة لابد أن تكون كبيرة.
ـــ لمؤرخ شاب قرر احتراف كتابة التاريخ؟
قالت: من فهم الماضى.. تجلى له المستقبل.
ـــ لشاعر حديث السن يقلد الكبار؟
قالت: فتش عن نسخته الأصلية.
∎السيد الشعر
قلت للشيخة سعاد الصباح: سئلت من طالبة بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية كيف درست سعاد الصباح الاقتصاد وصارت شاعرة، ما علاقة الأرقام بالنجوى؟ جاء وقت سؤالك قالت الشاعرة: لو ذهبت إلى أجمل لوحة أو صورة وكبرتها ثم كبرتها ثم كبرتها، ستكتشف أنها مجرد نقط صغيرة جدا اقتربت من بعضها وشكلت لوحة وفى العالم الرقمى كل اللوحات والصور هى فى الأصل أرقام،وكل الأرقام وكل النقط لم تستطع إلغاء الجمال فى لوحة أو فى صورة، الأرقام خادمة للأحاسيس الكبيرة.
اسمح لى أن أقول لك يا أستاذ مفيد، هكذا كانت سعاد الصباح، جعلت من الاقتصاد جرسونا يقدم الشاى والقهوة للسيد الشعر.