السبت 18 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

تلميذ في مظاهرة ضد الاستعمار

فى يوم 15 يناير عام 1918، انطلقت صرخة الحياة الأولى للطفل جمال عبدالناصر، وشهد العقار رقم 18 بشارع قنوات بحى باكوس بالإسكندرية مولد الطفل البكر لموظف البوستة البسيط عبد الناصر حسين.



ويعيش الطفل الذى أصبح الزعيم جمال عبدالناصر طفولة حزينة، وغير مستقرة، وفقًا لسيرة جمال عبدالناصر، إعداد ابنته الكبرى الدكتورة «هدى عبدالناصر»!. «التحق الطفل جمال بروضة الأطفال بمحرم بك، ثم التحق بالمدرسة الابتدائية بالخطاطبة فى عامى 23، 24، وفى عام 1925 التحق بمدرسة النحاسين الابتدائية بالجمالية بالقاهرة، وأقام عند عمه خليل حسين لمدة 3 سنوات. وتواصل د. هدى: «وفى صيف 1928 أرسله والده عند جده لوالدته فقضى السنة الرابعة الابتدائية فى مدرسة العطارين بالإسكندرية، وفى عام 1929 التحق بالقسم الداخلى بمدرسة حلوان الثانوية وقضى بها عامًا واحدًا، ثم نقل فى العام التالى 1930 إلى مدرسة رأس التين الثانوية  بعد أن انتقل والده إلى العمل بمصلحة البوستة هناك». من هذه الرحلة فى السيرة الذاتية للطفل «جمال»، نلاحظ حرص الوالد الموظف البسيط، الذى يكفى راتبه أسرته بالكاد على تعليم ابنه، كما نلاحظ أن الطفل جمال عاش طفولة غير مستقرة، فقد تنقل للإقامة فى بيوت أقاربه، كما تنقل من مدينة لأخرى، الأمر الذى بالضرورة أثر على تكوينه الوجدانى. وقد ظهر جليًا هذا التأثير فى انحيازه للفقراء ولحق الأطفال فى التعليم، أيًا كان مستواهم الاجتماعى والاقتصادى، فشهدت سنوات حكمه التعليم المجانى فى كل مراحل التعليم.

الطفل يهتف ضد الاستعمار

 

أما تشكيل وجدانه القومى ووفقًا لسيرته الذاتية، فقد بدأ فى عام 1930: «ففى هذا العام قامت وزارة إسماعيل صدقى بإلغاء دستور 1923، ورفض الشعب دستور صدقى وقامت مظاهرات تطالب بعودة دستور 23 وسقوط الاستعمار». ويحكى الطفل جمال عن أول مظاهرة اشترك فيها قائلاً: «كنت أعبر ميدان المنشية فى الإسكندرية، حين وجدت اشتباكات بين مظاهرات لبعض التلاميذ، وبين قوات البوليس، فلقد انضممت على الفور للمتظاهرين، دون أن أعرف أى شىء عن السبب الذى كانوا يتظاهرون من أجله، ولقد شعرت أننى فى غير حاجة إلى السؤال، لقد رأيت أفرادًا من الجماهير فى صدام مع السلطة، واتخذت موقفى دون تردد فى الجانب المعادى للسلطة»! ويواصل قائلاً: «ومرت لحظات سيطرت فيها المظاهرة على الموقف، إنى لأذكر أنى - فى محاولة يائسة - ألقيت حجرًا، لكنهم أدركونا فى لمح البصر، وحاولت أن أهرب، لكنى حين التفت هوت على رأسى عصا من عصى البوليس، تلتها ضربة ثانية حين سقطت، ثم شحنت إلى الحجز والدم يسيل من رأسى مع عدد من الطلبة الذين لم يستطيعوا الإفلات بالسرعة الكافية»! ما سبق ذكره كان فى حديث أجراه مع «دافيد مورجان» مندوب «الصنداى تايمز» فى 18/6/1962 ويواصل فى حديثه: «دخلت السجن تلميذًا متحمسًا وخرجت منه مشحونًا بطاقة من الغضب». ويعود جمال عبدالناصر إلى هذه الفترة من حياته فى خطاب له بميدان المنشية فى 26/10/1954 ليصف أحاسيسه فى تلك المظاهرة وما تركته من آثار فى نفسه: «حينما بدأت فى الكلام اليوم فى ميدان المنشية سرح بى الخاطر إلى الماضى البعيد وتذكرت كفاح الإسكندرية وأنا شاب صغير. وتذكرت فى هذا الوقت وأنا أشترك مع أبناء الإسكندرية، وأنا أهتف لأول مرة فى حياتى باسم الحرية وباسم الكرامة، وباسم مصر أطلقت علينا طلقات الاستعمار وأعوان الاستعمار فمات من مات وجرح من جرح، ولكن خرج من بين هؤلاء الناس شاب صغير شعر بالحرية وأحس بطعم الحرية، وآل على نفسه أن يكافح وأن يقاتل فى سبيل الحرية التى كان يهتف بها ولا يعلم معناها، لأنه كان يشعر بها فى نفسه، وكان يشعر بها فى روحه وكان يشعر بها فى دمه، لقد كانت تلك الفترة بالإسكندرية مرحلة تحول فى حياة الطالب جمال من متظاهر ثائر إلى ثائر بحالة الغليان التى كانت تعانى منها مصر بسبب تحكم الاستعمار وإلغاء الدستور».

 

صدمة طفولية

 

ونعود مع حوار جمال عبدالناصر مع «مورجان» إلى طفولته، بل إلى أصعب تجربة مرت بها سنوات عمره، وهى فقد الأم، وكان عمره فى وقتها ثمانى سنوات، فقد توفيت أمه فى عام 1926 وكان فى ذلك الوقت فى مدرسة فى القاهرة، ولم يعرف خبر وفاتها إلا بعد، أسابيع عندما عاد فى الإجازة الصيفية إلى أسرته وعن هذه التجربة المريرة يقول: «لقد كان فقد أمى فى حد ذاته أمرًا محزنًا للغاية، أما فقدها بهذه الطريقة فقد كان صدمة تركت فىَّ شعورًا لا يمحوه الزمن، وقد جعلتنى آلامى وأحزانى الخاصة فى تلك الفترة، أجد مضضًا بالغًا فى إنزال الألم والأحزان بالغير، فى مستقبل السنين». إن الألم النبيل الذى سكن قلب الطفل جمال عبدالناصر وعاش معه بقية حياته، ويظل يخفق هذا القلب بكل المشاعر المختزنة تجاه أطفال بلاده فيقول: «لن أحترم العالم طالما هناك فى بلادى منكسر العينين.. فقرًا أو خوفًا وحاجة».