امرأة هى كل النساء
منير عامر
شمس شاطئ ميامى فى التاسع من يوليو 1959 ترى ما أتيح لى رؤيته بشكل مباشر بين عبد الحليم حافظ ومدير أعماله مجدى العمروسى؟!
كان عبد الحليم يسير من كابينة إحسان عبد القدوس أشهر كابينة بميامى، وحوله أعداد من المعجبين، لا يقتربون إلى حد إزعاجه، ولا يبتعدون رغبة منهم لتلمس القرب منه، وكنت أسير مع فتاة عمرى، لذلك التفت إلى عبد الحليم بنوع من الانتباه الصحفى، وسمعته بأذنى وهو يقف بجانب سور إحدى الكبائن ويقول لمجدى العمروسى «لازم مصنع مرسيدس يصمم العربية ويكون لونها لون عيون ليلى».
طبعا كنت مندهشا أنا وفتاة عمرى من هذا القول، فكيف يمكن أن يلتقط أحد لون عيون امرأة ليكون لونا للسيارة التى سيرسلها مصنع مرسيدس بناء على تعليمات كمال أدهم السعودى الكبير والذى عمل فيما بعد مديرا للمخابرات السعودية وهو شقيق زوجة الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود، ولم يكن أيامها ملكا بل وليا للعهد؟!
أى امرأة هى التى ستكون السيارة بلون عينيها؟
قالت فتاة عمرى: ما تيجى نشوف لون عيونها إيه؟
وكنا نعرف الكابينة التى تجلس فيها ليلى. وسرنا إلى الكابينة، لكن «ليلى» كانت ترتدى نظارة شمسية، فضحكت أنا وفتاة عمرى، متذكرين أن أيا منا كان يرتدى نظارة شمسية أيضا لأن شمس يوليو شديدة الوضوح عارمة الحرارة.
وفى مساء ذلك اليوم، كانت فتاة عمرى قد وافقت بعد إلحاح أن ندخل معا إلى السينما الصيفى الموجودة على بلاج ميامى وهى سينما فلوريدا.
وفوجئنا - بعد إظلام السينما لبدء العرض - أن امرأة فارعة الجمال رغم ضآلة الجسد تدخل لتجلس خلفنا، ولم ننتبه لها إلا بعد أن مرت دقائق أخرى لنجد عبدالحليم يدخل متسللا ليجلس بجانبها، ويبدو أن الهمس بين الاثنين كان أكثر أهمية من مشاهدة الفيلم.
وبعد سنوات اقتربت الست سنوات كنت أجلس مع عبدالحليم فى شرفة منزله، وعندى سؤال واحد هو: من هى ليلى التى قال عنها أنها المرأة الوحيدة التى أحبها، على الرغم من علمى بتعدد علاقاته باسم الحب؟
وهنا قام عبد الحليم من مقعده وشد يدى ليدق باب الجانب الآخر من منزله أو ما كنت أسميه «قرية الحلوات فرع الزمالك»، حيث تعيش بنت خاله فردوس ومعها زوجها شحاتة، وكانت شقيقة عبدالحليم السيدة علية شبانة موجودة، قال عبد الحليم لعلية «احكى للأستاذ منير عن أن ليلى كانت ستصبح زوجتى لولا أن السماء خطفتها منى». قالت السيدة علية: «كانت بنت موت .. جمال إيه .. أخلاق إيه .. كل مافيها تبارك الخلاق» وعلى «السبرتاية» الموجودة ببلكونة خلفية فى الحلوات فرع الزمالك، شربت فنجان قهوة على شرف سماعى لحكاية الحب التى اعتبرها عبدالحليم هى جوهر علاقاته بالجنس الآخر.
تعود الذاكرة إلى شاطئ ميامى. دخل عبد الحليم كابينة كمال الطويل وارتدى المايوه لينزل إلى البحر. يجيد العوم، فقد دفعثمن العوم من الصحة، فلولا الترعة لما جاءت البلهارسيا.
تحسس بطنه بيده. أثار الجرح الدائم الناتج عن عملية إزالة جزء من الكبد والمرارة والبنكرياس وجزء من المعدة. حساسية خاصة لهذا الجزء المجروح. قال لى «دون أن أدرى توقفت عيونى عند فتاة على الشاطئ. تنظر إلىَّ. أنظر إليها. لا أحد يعرف كيف يمكن أن يولد الحب.
لكن الذى أعرفه أننى شعرت بالراحة؟ تحولت الراحة إلى صدمة كهربائية تجعل الإنسان يرتعش من أوله إلى آخره. لاحظت أننى فى الماء. وأن البحر الساكن الأزرق يتحول إلى بحر عنيف بعض الشىء. وأخرج من الماء.
تعلم أنى لم أتعود أن أتوقف عاطفياً أمام المرأة، ليس لأنى جاف القلب، ولكن لأن حياتى هى مشوار من الجرى والشوارع التى مشيت فيها كلها تقريباً ليست مرصوفة بالأسفلت ولكن بأمواس حادة. الحلوات. الملجأ. الزقازيق. المعهد الموسيقى. السيدة زينب. العمل بالتدريس .
الاستقالة من التدريس. الغناء بالإسكندرية. الطرد من مسرح لونابارك. الغناء فى حفل الأندلس. الشهرة. توقيع العقود. تأجير شقتين بعمارة السعوديين لتعيش معى الأسرة فالانتقال من شقة المنيل المتواضعة صار ضرورة. قليل من الألم عندما أتذكر الراقصة ميمى فؤاد. كان من المستحيل أن أتزوجها. النزيف الأول. السير على أشواك محمد عبد الوهاب التى سبق والتهم بها عديدا من المطربين، وأخيرا مشاركته فى شركة صوت الفن.
لم يكن فى مشوار العمر ما يمكن أن يتيح لى التفكير الهادئ فى الزواج . أصدق ما قاله لك ولى د.أحمد عكاشة أستاذ الطب النفسى: إن الإنسان الذى يعانى من الإحساس بأنه مطرود من الحياة؛ لا يشتاق إلى الحب إلا فجأة. ويكون هذا الشوق شديد الانفجار. ومن أجل ذلك صرت حريصا جداً فى معاملتى للمرأة. وهناك خوف غامض من أن كل امرأة تخفى خيانة من نوع ما.
أمى ماتت دون أن أراها. وكل النساء اللائى رأيتهن فى طفولتى عاملننى بالشفقة وبالصدقة.
وبالتفاؤل، ولكن الحب نفسه، فأنا لم أعثر عليه . طبعا لا أنسى قول «عرافة» فرنسية «الحب يابنى تقابله وتسعد به ولكن احذر ألا تسرع فى الزواج. لو تزوجتها ستتضاعف سعادتك. وأى لحظة تردد يمكنك أن تعيش أسير الندم طول العمر». وطبعا مثل أى إنسان يسمع مثل هذا الكلام فيقول عنه أنه تخريف. ولكن قول العرافين يستقر فى القلب فلا ينساه الإنسان أبدا.
وجدت عيونى تتعلق بواحدة رأيتها فور أن خرجت من البحر . تابعتنى عيونها للحظات. دخلت كابينة على الشاطئ. جلست وكأنها تخاف أن تجلس أو أن تقوم.. كأنها تحمل على أكتافها هموم الدنيا. بحثت بسرعة فى أصابعها. وجدت آثار دبلة زواج. مسألة غريبة. قلت لنفسى: خازوق تكون متزوجة والدبلة ضاقت على صابعها بعتتها للصايغ علشان يوسعها». ضحكت على هذه الفكرة. اقتربت من الكابينة، فخلعت نظارتها الشمسية، كنت جريئاً إلى حد بعيد دون قصد أو كعادتى كما تتهمنى أنت. عيونها زرقاء أو بنفسجية أو خضراء أو رمادية. كأنى رأيت هذه العيون قبل ذلك. قامت لتخرج من الكابينة. سرت بعيدا عنها وخلفها، لأجدها على لسان البلاج وحدها. قلت لها بدون تردد: والله العظيم وحشتينى. ضحكت: كدة مرة واحدة؟! قلت: أيوه كدة مرة واحدة.. فيها إيه ؟ ضحكت: فيها متاعب كثيرة!
متزوجة. على حرف الطلاق. من أسرة كبيرة. أسيرة الأشياء. عاملوها طوال حياتها كعروس اللعبة. علموها فى مدارس إنجليزية. وفجأة عند شهادة الثقافة قالوا لها العريس وصل.
وكان العريس رجل أعمال ثريا تشهد له السوق المحلية والعالمية بالذكاء كرجل أعمال. غيرته فوق الحدود. مشغول طول الوقت.
قالت: «كل ده ما يهمش لو فيه بينا إحساس. الإحساس هو الشىء اللى يخلى الواحدة تتحمل. كنت أقول لنفسى بكرة حا احبه. بعده حااحبه. لكن مفيش راجل فى الدنيا بيصدق إن فيه واحدة ما بتحبوش. حاجة غريبة جداً.
وبدأ الكلام عن الطلاق. أنا لا أطيق أن أتحمل ما أنا فيه. أنا فلاح. والفلاح لا يقبل أن يحب امرأة متزوجة، لكن هل يسألك الحب أولاً هل أنت على استعداد له وهل ظروفك وظروف من تحبها مناسبة؟ الحب لا يقبل ذلك. الحب يهجم مباشرة. وبعد ذلك على الإنسان أن يكيف ظروفه. وعشت العذاب.
يتذكر عبد الحليم كلماتها قالت: اللى يشوف عبد الحليم حافظ كده.. يفتكر إن عمره 41سنة؛ مش مطرب مشهور.
قال: ما أقدرش أكون كذاب. معك أنت أقول الحق؟
قالت: غريبة قوى الدنيا دى. ليه ربنا مش بيخلق الناس اللى بتحب بعض فى يوم واحد. ويعرف الأهل إنهم بيحبوا بعض وأنه عيب إن حد يتدخل.
قال: أنت كده بتلغى أهم حاجة فى الحب.. إن الاثنين يبنوه سوا
..
قالت: أنا عايشه فى كوم تراب مزوق.. بيت. عربية. جوز. أولاد. كنت عايزة أن أعيش.. أنا مش أنانية لكن حاسة إن عمرى قصير. وفجأة قبل أن يرد عبد الحليم،. نظرت إلى عربة مرسيدس من طراز حديث وقالت: شوف العربية دى يا حليم.
وقرر عبد الحليم أن يشترى لها ما هو أفضل منها.
يتذكر أنه قال لها : عارفة الصبح وأنا جاى إسكندرية كنت حا أدوس حمار وافتكرت أيام الحلوات. كان اللى يركب حمار يبقى غنى.
ضحكت ليلى تماماً. قالت: أنا اتأخرت على الأولاد. واتفقا على أن يلتقيا فى سينما فلوريدا الصيفى التى فى شاطئ ميامى.
حكيت لعبد الحليم أنى كنت فى نفس السينما فى ذات المساء نفسه ورأيته وهو يدخل متسللا ليجلس بجانبها . ضحك قائلا : كانت تجربة غريبة . أقف بسيارتى فى شارع جانبى بجانب السينما. وأن أراها وهى تدخل. ثم بعد ذلك أقطع تذكرة وأدخل لأبحث عنها فى الظلام. لا أنسى لقاء يدى فى يدها. هل أقول أننى نسيت تماماً كل شىء. هل أقول أن الدنيا كلها قدمت الاعتذار الكافى عن كل الإهانات القديمة لى؟ هل أقول إننى مولود من جديد؟ لا أحد فى الحب يعرف أن يقول كل ما عنده. لكن عندما اقترب الفيلم من نهايته كان على أن التفت إلى الشاشة وأن أقوم من مكانى لأجرى إلى عربيتى. ثم أعود مرة أخرى مع بداية الفيلم الثانى.
يواصل عبد الحليم: انتصف الليل. لم نكن نفهم شيئاً فى الفيلم. قمنا لنمشى إلى السيارة.
فى السيارة جلسنا. لا أنكر على خيال أحد أنه يمكن أن يحتضن حبيبته فى السيارة فى هذا الزمان الغريب الملىء بأزمة الإسكان. ولكن أنا وحدى محروم من هذا الحق. إنها ليست لى صافية. أنا لست لها تماماً. ليس بيننا سوى مشاعر كبيرة.. ولكن هناك فواصل من الآلام. أنا خائف عليها. العيون التى تعرف أنى عبد الحليم أتمنى أن تنسانى. وهى عندها المشكلة الكبرى.
زوجة وأم وعلى حافة الطلاق. الرائع أنها تفهم تماماً مشاعرى.. والجميل أننى أيضاً كنت أفهم مشاعرها.. وضحكت وأنا أقول:
الأفلام كلها تصور البطل أول ما يحب البطلة يحضنها. وتبتدى مناظر غريبة قوى. تتكلم عن الحاجات اللى الإنسان عايز يعملها، لكن لما تيجى له الفرصة يخاف يعملها. يحس أنه حا يجرح حاجة كبيرة قوى حلوة قوى فى قلبه.
ترد وهى مبتسمة: عارف أنا حسيت إن احنا حا نحب بعض إمتى. قدام محل «هارولدز» فى لندن أنا شفتك هناك.
- وأنا شفتك.
- بس أنت حاولت تكلمنى بالإنجليزى.
- لا.. كلمتك بالعربى لأن معاك واحدة صاحبتك. سيبتينى ومشيتى.
- ما هو لما يكون دماغ الواحدة مليان صداع ومشاكل ما تفكرش إلا فى حاجة واحدة.
- تفكر فى إيه.
- فى إنها تغير حياتها.
- بس خفت تكلمينى.
- أبداً حسيت إن فى عينيك حاجة غريبة. شكوى. تعب. إرهاق. تحدٍ.
- وأنا حسيت إنك أجمل عيون خلقها ربنا.
- الناس بتشوف الناس من بره..
- ما هو ما فيش حد عنده فرصة يقف قدام واحدة حلوة زيك ويتوه فى جمالها.. وبعدين يقابل الكمية دى من المشاكل.
- كنت خايفة إنى أسمع الكلمة دى منك.
- ليه.
- لأنى عارفة إن مشاكلى كثيرة.
ورأى عبد الحليم العيون الجميلة تسيل بالدموع. ومن أكثر ما يخاف منه هو عيون المرأة إن امتلأت بالدموع، فدموع المرأة غالبا - عند عبد الحليم - تكون بداية مؤامرة، لكنه أحس للمرة الأولى على حد قسمه لى أننى أمام دموع حقيقية لامرأة حقيقية.
يحكى أنه قال: عارفة لما شفتك النهاردة فكرت فى إيه. فكرت فى إنى جيت من الحلوات مخصوص علشان أحبك.
قالت: الحب ده غريب جداً.. دايماً ييجى فى وقت غير مناسب.
∎∎
يروى عبد الحليم : كى تجعل الحب يأتى فى ميعاد مناسب كان لابد من تفكير هادئ. أبناؤها فى عمر يمكن للزوج أن يطلب حضانتهم ولا يقول له أحد أى شىء. والرجل غالبا لا يتصور أن هناك من تعيش معه وهى تختلف عنه. نحن فى حاجة إلى تغيير كبير لنفهم أن المرأة من حقها أن تحب. وأن نساعدها على ذلك. وكان التليفون يستمر طول الليل فى بيتى وبيتها مشغولاً. أدخل عبد الحليم خطاً تليفونياً آخر مخصوصاً لصوتها فقط. ورغم ذلك هاجت الشائعات. قالت لى ذات مساء «لو كان بإيدى كنت أفضل جنبك». فقلت على الفور «وأجيب لعمرى ألف عمر وأحبك».
ولم أكن أعلم أن قولنا هذا سيتحول إلى أغنية، تحكى حكايتنا فى البداية إلى النهاية، فهى أغنية العمر «فى يوم فى شهر فى سنة تهدى الجراح وتنام وعمر جرحى أنا أكبر من الأيام».