أمهات الشهداء فى عيد الام :استشهاد ابنى هديتى من ربنا!

امانى زيان
عندما فقدت أمى.. كان كل عيد أم يمر علىَّ يجعلنى أشعر أحاسيس غريبة ومتناقضة ومؤلمة.. كنت أحيانا أشعر بالخجل! وأحيانا بالحزن .. وأوقات كنت أشعر بالاشتياق لشراء هدية لها كما كنت أفعل دائما وأن أرى الابتسامة التى ترتسم على وجهها ونظرة بعينها تؤكد لى رضاها عنى . كنت أشعر بألم الفراق يعتصر جوارحى.. وكنت أعتقد أن هذا العذاب من الفقدان والفراق لا مثيل له فهل هناك أكثر من الأم لنفقدها؟! .
وصلتنى الإجابة بعد الثورة.. وكانت بنعم.. بالفعل يوجد ألم أكبر وفقدان أعظم من فقدان الأم أو الأب.. وهو أن تنقلب الآية وتختل سنة الحياة.. فبدلاً من أن يحمل الابن أمه ليقبرها ويدعو لها بالرحمة والمغفرة كما ربته ورحمته.. تحمله هى وتشاهد جثمانه يتوارى خلف التراب وهو فى ريعان شبابه.. وتعيش البقية الباقية من حياتها عايشة وقلبها مدفون تحت الأرض.
منذ بداية الثورة وكل عيد أم يمر علينا أذهب لأقابل أمهات الشهداء واعتقد بسذاجتى أن هؤلاء آخر أمهات الشهداء وأنهن من سأعيد عليهن كل عيد أم، إلا أن كل عام تتغير الأسماء وتختلف الوجوه والأسباب ويبقى المشترك الوحيد نار تحرق قلوبهن على فلذات أكبادهن اللاتى سهرن عليهم وعملن بكل جهد لديهم ليوفرن لهم كل سبل الراحة والأمان.. ويعلمنهم أحسن تعليم ويستثمرن فيهم كل تعب السنين.. وفى غمضة عين ينقلب حلم العمر وفرحته للألم المر وحسرته .. لكن الحقيقة كان هناك شىء مشترك آخر.. كنت أذهب لأم الشهيد لأجدها هادئة صامتة تمسح دموعها برضا وابتسامة.. فأقول أنها الصدمة.. وسيليها الانهيار.. لكنهن يبقين كذلك صامتات صابرات . راضيات بقضاء الله وقدره.. ولكن لسن مستسلمات بل العكس.. قويات.. يتحولن من أم البطل لبطلات يرفعن الراية التى كان يحملها أبناؤهن ليكملن الطريق ويصلن لهدف حلم به ابن العشرين الذى جعلته بطموحها يظن أنه قادر على تحقيق آماله بأن يصبح وطنه كباقى بلدان العالم المتحضر وأن يصبح شعبه عالى الرأس غالى الثمن.
الشهيد يوسف منصور
هذا العيد جمع مجموعة جديدة من أمهات الشهداء كالعادة .. أم محمد الجندى الحاجة سامية والحاجة أم محمد الشافعى ووالدة الشهيد يوسف منصور الطفل التى فصلت سيارة المدرعة رأسه عن جسده فى المنصورة وهو مجرد طفل 14 سنة حلم بالمشاركة للتغيير وظن أنه سينجو!! ولن ننسى أصغر شهيد فى أحداث ماتش بورسعيد «أنس» هذا غير شهداء بور شهيد «بور سعيد» والسويس وغيرهم وغيرهم.. تحدثت لوالدة الشهيد محمد الجندى والحقيقة أننى أصبحت أحب الحديث مع الحاجة سامية لأنها سيدة قوية .. مؤمنة كلما أقوم بالاتصال بها وأنا فى حالة يأس واكتئاب .. وبعد دقيقة واحدة من الحديث معها أشعر بالخجل من نفسى ومن ضعفى.. ففوق تحملها لالم الفراق لابنها الوحيد وتحملها المسئولية على حد قولها لأنه كان قد هاجر لأمريكا وقرر عدم الرجوع لأنه يأس من الإصلاح فى هذا البلد إلا أنها ظلت تؤنب له ضميره قائلة.. «هتسيبنى أموت وأنت مش جنبى يا محمد.. هتسيب حد غيرك يدفنى يا ابنى ومين هيقرالى القرآن على قبرى يا ابنى ويدعيلى بالرحمة».
لم تكن تعلم أنه هو من سيسبقها للقبر وأنه سيموت بطلاً وأنه سيجعلها تمشى خطواته وتظل وراء الحق حتى تأتى به.. حتى فى عدم وجوده فى عيد الأم لأول مرة ورغم افتقادها لهديته وضحكته وتقبيله ليدها وطلبه الدائم برضاها عليه لكنها تشعر بقربه دائما وتشم رائحته حولها وتعلم أنه حتى بعد وفاته أعطاها الهدية التى لا يوجد فى الكون أجمل منها.. فهى أم الشهيد وستحشر معه مع النبيين والقديسين . ولا تريد غير ذلك.. وأيضا موته كان بابًا لتدخل منه لتكون أم الثوار كما يلقبونها فى طنطا.. عندما كنت فى زيارتها وجدتهم يجتمعون عندها يرتاحون من الوقفات الاحتجاجية ووجدتها تنبه عليهم عدم إلقاء طوبة أو أى شىء يستفز الداخلية وعندما رفض أحد الشباب قالت له «يا ابنى يا حبيبى.. أنت بتحب مصر.. لو فعلا بتحبها تعرف أن الشرطة والجيش لازم نحافظ عليهم لأنهم هم أمان البلد دى لكن إحنا بنطالب بالتطهير واستبعاد القتلة منهم واعتراف المخطئ بخطئه.. بس مش أكتر» وكانت دائما ما تذكر أن محمد كان يقول هذا الكلام للثوار معه ممن كان يريد استعمال العنف ويقول لهم هذه الورقة التى بين يدينا أقوى من الرصاص.. أم الثوار أم الجندى تؤمن بأن محمد لم يمت وأنه حولها فقد عاهدها بأنه لن يتركها وهى تعلم أنه يوفى بوعوده.