الأحد 19 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

النفط السورى والقرصنة الأمريكية

التدخل الأمريكى فى سوريا أغسطس 2014 كان مبرره الحرب ضد «داعش»، وإعلان الانسحاب الأمريكى فسره ترامب فى مارس 2019 استناداً إلى الادعاء بهزيمة «داعش»، والتراجع الأخير عنه تم تفسيره بالحرص على عدم وقوع آبار النفط فى قبضة «داعش».. لم تعرف السياسة الأمريكية فى تاريخها مثل هذا التخبط والتمسح بمبررات واهية، فضلاً عن إغفال التزاماتها كقوة عظمى فى مواجهة النفوذ الروسى والأطماع الصينية.. والأهم، تخليها عن القيم والأخلاقيات المتعلقة باحترام علاقات التحالف مع الأكراد، والحفاظ على أمنهم.



خطايا الانسحاب الأمريكى القرار الأول بالانسحاب قدم للعالم صورة بالغة القبح عن الحليف الأمريكى، الذى خان كل حلفائه، بعد أن أبلوا بلاءً حسناً فى القتال ضد داعش، ثم وجدوا أنفسهم دون سند أمام غزو تركى بربرى، كان الانسحاب ساعة الصفر لتحركه!!، الرئيس الأمريكى فسر خيانته باستهتار «لقد ساعدنا الأكراد كثيراً، لكنهم ليسوا ملائكة»!!.. إسرائيل أصيبت بصدمة، عاموس هاريل لخصها بصحيفة هآرتس «الانسحاب قرار سيئ لحلفاء أمريكا بالإقليم، وإشارة تحذير على أن ترامب لا يمكن الوثوق به»، والأردن دعا للاحتفاظ ببعض القوات الأمريكية فى سوريا. كل مؤسسات الدولة الأمريكية العميقة «المخابرات، الخارجية، الكونجرس» عارضت الانسحاب، جيم ماتيس وزير الدفاع أعلن استقالته، والحزبان الجمهورى والديمقراطى انتقداه، لكن الرئيس كان خاضعاً لاعتبارات اقتصادية ضيقة، تتعلق بالمردود المالى للتواجد العسكرى، وهو ما كان المدخل للسيناتور الجمهورى ليندسى غراهام، والجنرال المتقاعد جاك كين، وقادة البنتاجون، لإقناعه بالإبقاء على 800 جندى، يتمركزون بين بلدات محافظتى الحكسة ودير الزور، حيث تتمركز حقول النفط السورية، و200 فى قاعدة التنف الاستراتيجية، وذلك للسيطرة على حقول النفط السورية، بدلاً من تركها لداعش وإيران وروسيا.. وكأن ثروات الدولة السورية «بلا صاحب». الإنسحاب وشبح «داعش» تباهى ترامب فى مارس الماضى بهزيمة «داعش» كان يخلو من مضمون، لأن الآلاف من مقاتليها ينتشرون فى الصحراء السورية وفى غرب العراق، يعيدون مراجعة الخطط، والبرامج التدريبية، والتجهيزات، وتطويرها بما يتناسب والتغير فى أوضاع التنظيم واستراتيجيته، استعداداً للعودة إلى حرب العصابات من جديد، بعد إيقاظ الخلايا النائمة فى العراق وسوريا، واستئناف أعمال الكمائن والتفجيرات والاغتيالات، لا فى العراق وسوريا فحسب، وإنما بدول المنطقة وأوروبا، لأن افتقاد التنظيم لمصادر التمويل، ومقتل البغدادى، وعدم وجود كيان مؤسسى وجغرافى، سيعطى هامشًا كبيرًا من الحرية للقادة الميدانيين، ما قد يسمح بتنفيذ أنشطة بالوكالة، لحساب تنظيمات الإسلام السياسى خاصة الإخوان، بحكم امتلاكهم القدرة على التمويل. جلين فاين المفتش العام للبنتاجون فى تقريره ربع السنوى نوفمبر 2019، بشأن العملية العسكرية الأمريكية ضد «داعش»، أكد أن التنظيم استغل التوغل التركى والخفض اللاحق للقوات الأمريكية لإعادة بناء قدراته وموارده داخل سوريا، وتعزيز قدرته على استعادة السيطرة على بعض المراكز السكانية، والتخطيط لهجمات أكثر كثافة فى الخارج مستقبلا، وأشار التقرير إلى أن القوات الأمريكية توفر التدريب لفرق الكوماندوز وحراس السجون بالمنطقة الكردية على تقنيات مكافحة العبوات الناسفة، وغيرها من المهارات التخصصية التى تفتقر إليها قوات الدفاع الذاتى، كما أن هذه القوات لا تزال بحاجة إلى أفراد إضافيين، مدربين ومزودين بالمعدات اللازمة لمكافحة الإرهاب، وأى تقصير فى هذا يصب لحساب «داعش»، ووجه التقرير اتهامًا صريحًا لتركيا بأنها أو ميليشياتها لن يقاتلوا التنظيم مما يحمِّل أمريكا المسئولية، فضلاً عن استحالة التخلى عن قاعدة التنف بالمثلث الاستراتيجى المهم على حدود سوريا والعراق والأردن.. التقرير يتضمن انتقادًا للإنسحاب الأمريكى، على نحو يصعب مروره دون مساءلة. احتلال أمريكا لحقول النفط خطة ترامب الخاصة بالسيطرة على حقول النفط السورية، وإسناد تشغيلها لإحدى شركات النفط الأمريكية، قوبلت باستنكار دولى واسع، امتد إلى الأوساط الأمريكية نفسها؛ بروس ريدل مستشار الأمن القومى السابق والباحث فى معهد بروكينجز وصفها بـ«خطوة مريبة قانونياً، تبعث برسالة إلى المنطقة والعالم بأن أمريكا تسرق النفط»، وجيف كولجان أستاذ العلوم السياسية والدراسات الدولية بجامعة براون وصفها بالـ«فكرة غير الأخلاقية وربما غير القانونية، التى ستعرض الشركات الأمريكية لتحديات عملية فى سوريا». روسيا نددت بالخطة الأمريكية؛ وزارة الدفاع نشرت صورًا بالأقمار الصناعية، لقوافل الناقلات الأمريكية التى تهرب النفط السورى إلى الخارج تحت حماية القوات الأمريكية.. الجنرال إيجور كوناشينكوف المتحدث باسم الوزارة، وماريا زاخاروف المتحدثة باسم الخارجية، أكدا أن عائدات النفط الذى تتولى وكالات حكومية أمريكية تهريبه تتجاوز 30 مليون دولار شهريا، ووصفا ذلك بأنه «عملية قطع طرق على مستوى دولى»، الفريق أول ميخائيل ميزينتسيف رئيس مركز إدارة الدفاع الوطنى الروسى قال إن «أمريكا تواصل نهب سوريا بدعوى حماية الثروات النفطية، لتمويل الجماعات المناهضة للحكومة»، وألكسندر لافرينتييف المبعوث الخاص لبوتين إلى سوريا، شدد على أن حقول النفط ينبغى أن تخضع لسيطرة الحكومة السورية. سوء الحسابات الأمريكية الاحتلال الأمريكى لحقول النفط السورية خطأ جديد ضمن سلسلة من الأخطاء المبنية على حسابات مبتورة، أودت إلى حالة من التدهور المستمر لنفوذ أمريكا وشعبيتها على مستوى منطقة الشرق الأوسط؛ إنحازت فى البداية لما تصورته المعارضة السورية، وحاصرت النظام داخل مساحة ضيقة، حتى قارب على السقوط، ما جلب التدخل العسكرى الروسى فى سبتمبر 2015، الذى قلب موازين الصراع.. تبنت تدريب وتسليح المعارضة، فتعرضت لأكبر عملية خداع فى التاريخ، واكتشفت أن معظمهم من المتطرفين والمنتمين للتنظيمات الإرهابية، الذين استفادوا من التدريبات الراقية، واستولوا على أسلحة متقدمة وذخائر نوعية، ليحاربوا بها التحالف الدولى.. تحالفت مع «قوات سوريا الديمقراطية» التى يتزعمها الأكراد ثم خانتهم.. روسيا على العكس كسبت أرضًا جديدة وتوسع نفوذها نتيجة لقصور الحسابات الأمريكية.. حتى تركيا حليف أمريكا التقليدى، انضمت لروسيا وإيران تأمينًا لمصالحها، وجلبت شبكات الدفاع الجوى والصاروخى الروسية «S-400» لأراضيها، فى اختراق روسى غير مسبوق لأنظمة الطيران والدفاعات الجوية لحلف الناتو.. روسيا أضحت صاحبة أقوى نفوذ وتأثير سياسى يمكن الاعتماد عليه فى إدارة أزمات المنطقة.    الصين تزحف نحو المنطقة بثبات لتصبح القوة الاقتصادية الأولى فيها؛ حجم التبادل التجارى بينها وبين الدول العربية 126.7 مليار دولار فى النصف الأول من 2019، القيمة التعاقدية للمشروعات الجديدة التى وقعتها المؤسسات الصينية بالمنطقة خلال نفس الفترة 15.7 مليار، حجم الأعمال مع العراق وحده سيتجاوز الـ500 مليار دولار خلال الـ10 سنوات المقبلة، ومشروع تأجير جزيرتى فيلكا وبوبيان لمدة ٩٩ سنة، يستهدف ضخ استثمارات بهما تتجاوز ٤٥٠ مليار دولار، هذه الأرقام الضخمة نتيجة لسعيها لتحويل الشرق الأوسط إلى معبر للطرق الاستراتيجية بين آسيا وأفريقيا وأوروبا فى مبادرة الحزام والطريق. وسط هذه التوازنات، يخضع الوجود العسكرى الأمريكى لعملية إعادة توزيع، معيارها الرئيسى ليس تأكيد دورها كقوة عظمى، بقدر ضمان تحقيق مقابل اقتصادى مجزٍ لهذا التواجد.. أما السياسات فتتسم بالعدوانية الغشيمة، فقد فرضت حصاراً ومارست تصعيداً غير محسوب ضد إيران، ما دفع الأخيرة إلى قصف الناقلات والمنشآت النفطية لدول الخليج، فاضطرت للجوء إلى روسيا بحكم علاقاتها الخاصة مع طهران، أخطاء أمريكا جلبت التواجد العسكرى الروسى، وضاعفت المبيعات الحربية الروسية، وعززت نفوذه السياسى، ومكنت التغلغل الاقتصادى الصينى.. بقدر ماحققه ترامب من مكاسب إقتصادية نتيجة لضغوطه على دول الخليج، بقدر ما أضر بتوازنات القوى فى المنطقة، والثقل الاستراتيجى للولايات المتحدة، كما يعرض قواته فى سوريا لاحتمالات مواجهة حرب تحرير وطنية، فى ضوء ما ألمح إليه الرئيس الأسد بشأن وجود وسائل وطُرق أخرى بخلاف المواجهة المباشرة مع أمريكا، لاستعادة السيادة الوطنية على المناطق البترولية، مما يعنى الاعتماد على حرب العصابات لتحقيق ذلك. رغم تعقيدات المشهد وتداعياته، فإن الأسوأ على الإطلاق هو ترويج أمريكا لنموذج قبيح من القرصنة، يتعارض مع أية ادعاءات تتعلق بالحريات والحقوق واحترام القانون الدولى.. سابقة يمكن أن تكون مقدمة لإجراءات مماثلة تقوم بها فى بعض الدول العربية، تحت ذرائع مختلقة، كما يمكن أن تكون نموذجاً يحتذى، من بعض الدول الإقليمية التى دأبت على «البلطجة» على حساب دول المنطقة، وتلك بداية لفوضى ومواجهات وحروب لن تضر بمصالح دول المنطقة فحسب، بل بالمصالح الأمريكية ذاتها.