السبت 11 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

 خالتى أم عواطف الخبازة

أقطع الطريق جريًا من البيت إلى بيتها بمجرد أن أتلقى الأمر: «روحى نادى خالتك أم عواطف الخبازة خليها تيجى العجين قرب يخمر». أدق باب البيت بيدى الصغيرة، يسبقها صوتها من خلف الباب المغلق: «حاضر يا للى بتخبط، بغير هدومى إيه مفيش صبر».



تفتح الباب وهى تحكم الطرحة السوداء حول رأسها بيد وتشد ذيل الجلباب الأسود المعفر بالدقيق بيدها الأخرى. طويلة نحيلة لا تفارق الابتسامة وجهها النحيف، تربت بأصابعها الجافة على شعرى طالبة الانتظار حتى تجمع العدة. وعدة خالتى «أم عواطف» هى عدد من «المطارح» ومفردها «مطرحة»، وهى مصنوعة من الخشب بشكل دائرى ولها يد طويلة، وبقية العدة سيخ حديد طويل معقوف طرفه لسحب أرغفة من الفرن العيش بعد نضجها. صوت الفرح ليوم الخبيز صوت هو صوت الفرح، صوت «لت» العجين فى الماجور، صوت الحياة التى تبدأ على غير المعتاد بعد صلاة الفجر، فى حركة النساء فى أصوات توزيع المهام: «انخلى الدقيق» «العجين هنا عايز مية» «لتى العجين عدل إيه حيلك أتهد وإحنا لسة بنقول على البركة» «سيحتى الخميرة كويس قبل ما تحطيها على العجين» «غطى العجين خلى العجين يخمر». أصوات حركة نقل «مواجير» العجين إلى حجرة الفرن وتنظيف قاعدته ووضع «حزم» الحطب الجاف بجوار فتحة الفرن التى سيوضع فيها الحطب وإشعاله. تجلس النسوة على الأرض متحلقات حول «مواجير» العجين فى انتظار وصول «أم عواطف الخبازة» التى تصل متوجهة إلى غرفة الفرن مباشرة يسبقها صوتها معلنة قدومها: « صباح الهنا يا ستات» «اللهم صلى على النبى» «صلاة النبى أحسن» وقبل أن ترد عليها نساء البيت، وفى حركة تلقائية تنزع جلبابها الأسود وطرحتها وتتوجه إلى حوض فى جانب الحوش الكبير تفتح الحنفية وتدعك يديها بما تجده من أعواد القش حولها وقبل أن تجلس أمام الفرن تلقى نظرة خبيرة على العجين وتحدد بأى «ماجور» ستبدأ وهو الذى اكتمل اختماره، تقول وهى ترفعه قريبا منها، حيث ستجلس فى وجه فتحة الفرن: «البركة حالة علينا». أمام السنة اللهب تجلس بجانبها من ستناولها قطع العجين من «الماجور» لتضعها على «المطرحة» المغطاة بالدقيق حتى لا يلتصق بها العجين، وحتى يسهل تحريكه حتى ينفرد ويلقى به فى فوهة الفرن. نصف نهار أو نهار كامل حسب كمية الدقيق المخبوزة التى تقدر بالدقيق فى الأجولة فربما المخبوز جوال وربما جوالان تخبزهما وتتباهى بصنعتها ولا تفارق الابتسامة شفتيها. لا يقطع عملها سوى أن تغسل وجهها من العرق وتشرب «بق ميه من الحنفية». تخرج الأرغفة الساخنة من الفرن وتوضع فى «المشنات» مغطاة بقطع قماش بيضاء نظيفة مخصصة تحديدا لتغطية الخبز، ومع هدوء النار الحامية فى الفرن توضع طواجن الأرز المعمر بعضها بالسكر وبعضها بالحمام، وتسوى «قرص» من دقيق الذرة وليس القمح، لتخرج ساخنة من الفرن، مباشرة توضع فى اللبن  وتفرك «بالمفركة» الخشب وتحلى بالسكر ويضاف لها القشدة، أكلة لذيذة اسمها «مفروكة». تنهى خالتى أم عواطف يومها «بدس» يدها بجنيهات قليلة وربما كانت فى ذلك الوقت قروشًا  فى صدرها لتخفيها فى مخبئها الأثير وتحمل على رأسها لفة داخلها بضعة أرغفة وفوق شفتيها ابتسامة لا تختفى، وعلى جسدها النحيل الجلباب الأسود المعفر بالدقيق. حدث هذا فى  زمن كان  فيه أهل ريف مصر يخبزون فى البيوت وكان للفرن حجرة خاصة وكانوا يخجلون من الوقوف فى طوابير العيش.•