سكان" بحطيط" :لسنا على الهامش..لكـننا فـى «الوحـل»!

امل فوزى
إذا أردت أن تتعرف على أصحاب هذا البلد، فلا تنظر حولك فحسب، ولكن عليك أن تغوص فى أعماق وجوانب قرى وريف وشوارع مصر، لكى تدرك أن ثراء مصر الحقيقى بناسها وشعبها وشبابها.. إذا أردت أن تدرك مشكلات وواقع هذا المجتمع، اعرف ناسه، ناسه الذين لا يملكون أية وسيلة للظهور أو للتواجد على الساحات الإعلامية، ناس هذا البلد الذين يكتفون بأنفاسهم الكفيلة لهم بمواصلة العيش، لكنها العيشة الطاحنة التى لا تعلم حكومة النهضة الزائفة شيئاً عنها.
أصحاب هذا البلد من الشباب فى قرية «بحطيط» التابعة لمركز أبو حماد - بلبيس الشرقية - جمعتنا بهم همومهم وواقعهم الذى «يتاجر» به رئيس هذا البلد، وجماعته وإخوانه وعشيرته، يتحدثون باسم ناس لا يعرفون عنهم إلا «صور بطاقاتهم» لاستغلالها فى الانتخابات لخدمة مصالحهم السياسية. تباً لكل مستغل لحق المواطن المصرى.
وسط جو صافٍ وشمس دافئة وطاقة سلام جمعتنا فى جلسة صراحة وود مع مجموعة من شباب قرية «بحطيط».. كان ما بداخلهم غضب وغصة وإحساس عميق بالظلم وبالافتراء عليهم وعلى أحلامهم البسيطة المشروعة والبديهية، بداخل عقولهم رؤى لهذا البلد وكيف يتغير، بداخلهم أجهزة رادار حساسة وعالية الكفاءة مكنتهم من كشف اللعبة السياسية وأوراقها، بداخلهم وعى ونضج واحتياج حقيقى بالرغبة فى الحياة الآدمية المتوازنة.
بعض من شباب قرية بحطيط، ما بين مؤهلات عليا ومتوسطة وموظفين ومدرسين وطلاب.. تحدثوا عن الحياة اليومية، رغيف العيش، المرتبات، سيطرة الإخوان، كذب الإخوان ووعودهم الزائفة، عن الرئيس مرسى الذين اجتمعت آراؤهم جميعاً أن مصر ستصبح فى الهلاك والتهلكة لو استمر هو وجماعته فى الحكم.
هذه الجلسة مع هؤلاء الشباب مهداة إلى رئيس بلد لا يعرف كيف يديره ولا يعرف إلا المتاجرين بأحوال ومأساة أولادها، وأصحابها، مهداة إليه لتؤكد له - إن لم يكن متأكداً وواثقاً - أنه فاشل فى حكم مصر، وأنها كبيرة عليه، وأصحابها أيضاً كبار عليه وعلى نهضته الزائفة.إبراهيم صديق -32 سنة - يعمل بمحطة المياه بالسويس، بدأ الحديث عن رغيف العيش قائلاً: بالله عليك: أسرتى مكونة من أربعة أفراد، وحصتى فى العيش ستة أرغفة، نأكل ثلاثة ونرمى ثلاثة للطيور، لأن العيش لا يؤكل، وعدنا الرئيس بالعيش، ووعدنا الإخوان أن رغيف العيش مسئوليتهم تجاهنا، فماذا فعلوا؟ يأتوننا بعيش لايؤكل، نتحمل تكلفة نقله مضافة على ثمنه، أى أننى أتكلف مالا يقل عن ثلاثين جنيهاً شهرياً «عيش فقط»!، ولا يؤكل، ولا يكفى، أى أنه لو جاءنى ضيف فجأة لن أتكلم عن تقديم لقمة العيش له.. هل هذه هى النهضة فى عام 2013؟
الكثافة السكانية فى قريتنا حوالى 30 ألف نسمة، ولا يوجد سوى فرنى عيش، والمصيبة أن أصحاب الأراضى ومن معهم أموال يزاحموننا عليه أيضاً.ويقول محمد السيد: لدى قريب أراد أن يبدأ مشروعه فى قرية بحطيط وفتح فرن عيش كلفه عشرات الآلاف، لكنه خسر وغير قادر على استمرار مشروعه، بسبب أنه حتى هذه اللحظة لا يحصل على حصته من الدقيق المدعوم، ولو اشترى الدقيق على حسابه، فهذا يعنى أنه سيبيع الرغيف بـ20 قرشاً، فما هى الخدمة التى سيقدمها لأهل القرية؟
حتى الغاز نستطيع الحصول عليه، فهى كارثة أخرى، المستودع يأتينا بأسطوانات - إن وجدت - وتفرغ فى أقل من أسبوع وعندما تحملينها تجدينها خفيفة، فهى غير مطابقة للمواصفات، ونضطر لشرائها من السوق السوداء بما لا يقل عن خمسة عشر جنيهاً.أى أن المعاناة فى كل تفصيلة صغيرة من تفاصيل الحياة اليومية، والسؤال هنا من أحد الشباب: ما الذى قدمه الرئيس وحكومته لنا كشباب وكمواطنين نعيش فى قرى قد لا يزورها مسئول واحد؟
ولا يعلم بوجودنا.. فرد عليه شاب آخر قائلاً: إنهم يعلمون بوجودنا فى البلد جيداً، لكننا لا نعنيهم، وموتنا أو حياتنا أو بقاؤنا لا يعنيهم، إلا عند اقتراب الانتخابات، لذلك فقد انكشفت لعبتهم السياسية الرخيصة، لقد توغلوا فى القرية وفى مجالسها المحلية وتنمية المجتمع، ولا توجد تنمية ولا يوجد أى شىء إنسانى.
يقول أحمد: ما هى النهضة فى رأى الرئيس وحكومته؟
هل هى أن تعيش قرية بأكملها بلا خدمات صحية إنسانية، ولا توجد مستشفيات إلا على بعد كيلومترات من القر ية، من الصعب الوصول إليها أصلاً بسبب الطرق غير الممهددة وعدم تفضيل «التكاتك» للعمل داخل القرية، بل أسير على الأسفلت فى الطرق المؤدية للمركز، أى أنه لكى تذهب أم بطفلها المريض بحمى، الله أعلم متى وكيف ستصل إلى المستشفى ؟ هلى هذه هى النهضة والكرامة الإنسانية؟!
يقول إبراهيم: إحنا بلد قامت بثورة علشان ظروفنا وحياتنا تكون أحسن، والله أنا ما يهمنى أعيش كويس ومرفه، لكن نفسى أقدر أوفر لعيالى الحياة الآدمية، هو أنا كنت جايبهم الدنيا علشان يعيشوا نفس عيشتى الضنك؟!
يسترسل الشاب قائلاً: عمرى 32 عاماً، منها عامان عشتهم فى ظل حكم مبارك الظالم وما يقرب من عام فى ظل حكم مرسى المهين للكرامة الإنسانية!
نحن على هامش هذا البلد، ولا أشعر على الإطلاق أن البلد دى بلدنا، فقط خلال أيام الثورة شعرنا أننا سننجو، وأن القادم من حياتنا سنعوض فيه ما فات، لكننا فوجئنا بوابل من الكذب والتضليل، والإهانة.
قال لى: شاب مثلى راتبه 750 جنيهاً.. أنا وزوجتى وطفلان.. أنفق 30 جنيهاً عيش لايؤكل !، فاتورة مياه 15 جنيهاً، ومثلها كهرباء، وقد ألغيت الخط الأرضى للتليفون لأننى غير قادر على دفع180 جنيهاً كل ثلاثة أشهر، وعملى فى السويس، وهناك تكلفة للمواصلات، أريد أن ألحق أطفالى بحضانة لا أستطيع أن أدفع لهما 100 جنيه شهرياً.
بكم نأكل، بكم أعلم الأطفال، كسوتهم وملابسهم، وبكم العلاج فى حالة الطوارئ، بكم تكلفنا الفواتير، المواصلات، هل 750جنيهاً مصرياً كافية لحياة آدمية لموظف مثلى وأسرته؟
هل يتخيل أحد أن هذا الراتب قد يكون سبباً فى نكد ومشاكل وضغوط عائلية، فالبيت له متطلبات، وأنا غير قادر على إيفائها، زوجتى والأولاد معذورون، فهم يريدون أن يعيشوا بالحد الإنسانى المعقول، وأنا معذور لأننى ببساطة غير قادر على هذا الطلب البديهى.. أين مشروع النهضة منا، أين الوعود إذا؟!
يتحدثون عن الانتخابات والحرية والعدالة، وهم لا يعرفون أولويات البنى آدمين فى بلادنا التى يحكمونها: لقمة عيش نظيفة ومياه صالحة للاستخدام الآدمى، والحد الأدنى من المرافق والصرف الصحى، وتعليم حقيقى، وليست واجهات مدارس لا يذهب إليها الطلاب لأنهم لا يعرفون حتى كتابة أسمائهم.
وحدات وخدمات صحية تدير عملها اليومى، وليس فى مواسم التطعيمات فحسب.
التقط أحمد الطالب بالصف الثانى الثانوى الحديث قائلاً: أذهب إلى المدرسة من 9صباحاً إلى الحادية عشرة، فالمدرسون لا يدخلون الفصول وإن دخلوها، فأغلبهم لا يشرحون، وبصراحة أنا كشاب يتيم، لابد أن أعمل حتى أستطيع الإنفاق على الدروس الخصوصية، فأعمل فى البناء أو الدهانات أو حمل الطوب والرمل بيومية لا تزيد على 15 جنيهاً على أفضل تقدير، فى حين أن يومية عامل مثلى فى بعض أماكن من القاهرة بنفس طاقة ومجهود عملى تصل يوميته إلى أضعاف مضاعفة، فالتفرقة بين الريف والحضر حتى فى عدالة الرزق.
يقول لى محمد السيد وهو يعمل مدرس لغة عربية: حتى لو أردنا نحن الاجتهاد والتطوير من أنفسنا ومواكبة التكنولوجيا، تواجهنا العوائق. وأبسط مثال لذلك هو الإنترنت : لأنه لا توجد سوى شركة واحدة محتكرة فى قريتنا، فالخدمة شديدة السوء، بمعنى أننى لو أردت تصفح موقع أخبار ما، على أن أتركها نصف ساعة حتى يتم تحميل الصفحة.
ويسخر شاب آخر بمرارة: كنت أدفع 25 جنيهاً شهرياً حتى أستخدم النت ساعة فى اليوم.
هذا بالإضافة إلى أن أجهزة الكمبيوتر فى المدارس لا يستخدمها التلاميذ - إن وجدت تلك الأجهزة - فهى كالأثريات، وهنا يعلق أحدهم قائلاً: يعنى لو أردت لابنى أن يكون أفضل منى، فليست هناك فرصة له، لأن عقله غير مؤهل وغير مستعد لاستقبال أى تطور، وهذه وظيفة المدرسين الذين يكدسون المدارس، والتلاميذ لا تذهب، لأن هناك حالة من الفشل وعدم وجود نظام وتنسيق يحكم إدارة التعليم فى تلك القرى.
حياتنا عشوائية، وعلاقة الحكومة بنا وبالمواطنين عشوائية أكثر.
يقول إبراهيم: «حاسس كأننا ماشيين فى الوحل، نخرج من مصيبة ندخل فى مصيبة أكبر».
بمرارة قال لى: بصراحة لو ظل «مرسى» يدير البلد، سنغوص فى الوحل أكثر، لكن لو جاء واحد بجد يعرف يعنى إيه مصر والمصريين، بيحب الخير لها، وليس لمصلحة جماعته، حاسس إن ولادى ممكن يكبروا فى زمن أحسن وأنظف وأكثر عدالة وكرامة وإنسانية.
∎∎
فى العدد القادم: شباب قرية بحطيط فى حوار من القلب مع الأستاذة الدكتورة هدى زكريا أستاذ علم الاجتماع السياسى، ذهبت إليهم وعلى أرضهم كان الواقع.