الخميس 16 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

مئوية سندباد الفن والصحافة

مئوية سندباد الفن والصحافة
مئوية سندباد الفن والصحافة



مائة سنة مرت علي ميلاد فناننا التشكيلى المبدع «حسين بيكار»،  مناسبة تستحق أن نحتفل بها وبفنه الذي تميز بالذوق الرفيع والأناقة.. فكان فناً هادفاً خاطب الصغار قبل الكبار.. ولقب « بأمير فن البورتريه» ورائد فن الرسم للأطفال.. فى سطورنا القادمة سنقدم لمحات من فنه كهدية متواضعة منا إليه..  فى 2 يناير عام 1931 ولد بحى الأنفوشي بالإسكندرية. وفى 16 نوفمبر 2002 رحل بعد رحلة من العطاء امتدت  أكثر من سبعين عاما خاطبت خلالها  كتاباته وفرشاته كل الفئات.. شهد له بالنبوغ فى عدة مجالات ، فهو كما وصفه الكاتب الصحفي الراحل مصطفي أمين «ليس فنانا واحدا.. وإنما أستاذ لعدة فنون ، فهو رسام وموسيقي وشاعر وفيلسوف».



وقد تفوق فيها كلها فكان لشخصيته الفنية دور مهم فى تحقيق المكانة الرفيعة التي تمتع بها طوال حياته.. تميز فى مجالات الرسم، خاصة رسم الشخصيات «البورتريه» ومناظر الريف، وبرع فى رسومه لفيلم «العجيبة الثامنة» الذى صور فيه الراحل تشييد وبناء معبد أبوسمبل فى النوبة، وكان ناقداً تشكيليا موضوعيا رصد حركة الإبداع الفني فى مصر لسنوات طويلة تحت عنوان «ألوان وظلال» كما كانت رؤيته ثاقبة وأسلوبه بسيط عميق يميل فيه إلي الجمال الدفوي والحنان التعبيري فكانت صلته الوثيقة بالفن فى مختلف أشكاله هي السر فى احتلاله مكانة عالية بين النقاد.. هذا بجانب تأليفه شعر العامية المصرية الذي يحمل الكثير من الأخلاق السامية والقيم  الاجتماعية.

 عرف.. بموهبته فى الموسيقي منذ صغره ، لكنه أحب الفن أكثر فاختاره طريقا له تميز فيه بفضل موهبته الساطعة ، لذلك التحق بمدرسة الفنون الجميلة «كلية الفنون حاليا» ودرس له يوسف كامل وأحمد صبري:.. ورغم تفوقه فى دراسته للرسم إلا أنه فى ظل طوال حياته عازفا ماهراً علي البزق والطمبور والعود أيضا وعندما لمحه أستاذه وصديقه فيما بعد أحمد صبري وهو يعزف عليه أعجبه شكل بيكار فى هذا الوضع فاختاره نموذجا للوحته الشهيرة «العازف» ليتمتع برؤيته وسماعه وهو يرسمه من البداية.

ورغم أن بيكار كان أول دفعته من مدرسة الفنون الجميلة عام 1933إلا أنه سافر بعد التخرج إلي المغرب ، وهناك رسم أول رسومه التوضيحية عندما طلب منه مدرس الرسم هناك أن يترجم كلمات باللغة الإسبانية إلى صور ، وبعد عودته من المغرب إلي القاهرة عام 1924 عين معيدا ومعاونا لأستاذه وصديقه الفنان أحمد صبري فى رئاسة قسم التصوير وبعدها بوقت قصير تولي رئاسة هذا القسم بعد إحالة صبري للتقاعد.

وفى بداية الأربعينيات عام 1944 مع بداية تأسيس أخبار اليوم تعرف بيكار علي التوءم «علي ومصطفي أمين» وبدأ نشاطه معهما واحدا من ثلاثة رسامين: رخا وصاروخان فى الكاريكاتير، أما هو فكان يساهم بالرسوم التعبيرية إلي أن فاجأه الأستاذ علي أمين بقوله «طلق زوجتك الثانية.. أنا لا أحب الجمع بين زوجتين».. وكان يقصد هنا بزوجته الثانية كلية الفنون الجميلة ، وهكذا وجد بيكار نفسه أمام اختيار صعب كمن يترك زوجته من أجل حبيبته أو العكس.. لكنه استجاب للأمر واستقال بالفعل من كلية الفنون الجميلة عام 9591. وتفرع للرسم الصحفي وكانت هذه الخطوة بداية لحياته الفنية الحقيقية.
 
رغم أن الصحافة اختطفته من عمله الأكاديمى إلا أنه طوعها ورفع مستوى الرسوم بها لتحقيق رسالته مستغلا مجالها الواسع الانتشار كما قام بتطوير فن الكتاب وأغلفته ورسومه.

وقال عنه مصطفى أمين: لم يكن يعود لنا برسوم فقط، بل بصور حية تتكلم وتتحرك.. تغنى وترقص كنا نشعر أننا لم نوفد رساما واحدا.. بل أوفدنا بعثة فيها «فيلسوف» مصور، شاعر، فنان وقبل هذا كله فيها إنسان اسمه «بيكار».. فعبر عن المقال بالرسم وعبر عن الرسم بالمقال فسعد العقل ومتع العين.

وخلال هذه الفترة فى بداية الخمسينيات أصدرت دار المعارف مجلة للطفل العربى وكان سندباد العنوان الذى اختاره بيكار لها لإعادة الثقة لشخصياتنا التاريخية فجاءت كتجربة جديدة رائدة وغير مسبوقة فى صحافة الطفل فى الوطن العربى وصدرت بشخصياتها التى ابتكرها بيكار مع قيامه بالإخراج الفنى وتصميم أغلفة المجلة، وكان لبيكار فى هذا المجال أسلوب بسيط واضح ارتقى بمستواه ليقويه من العمل الفنى وكان رائداً له بدلا من النقل عن الصحف الأوروبية، كما كان بيكار أول فنان مصرى يقوم برسم الكتب المدرسية وغيرها للأطفال وأول من رسم غلاف كتاب فكان «الأيام» لطه حسين ويحمل الغلاف كلمة الأيام بخط يده وكذلك يعود له الفضل فى نقل الرسم الصحفى وكتب الأطفال وأغلفة الكتب من الغرب إلى مرحلة جديدة مثلت ثقافة مصر وروحها.

كان لبيكار فلسفته الخاصة فاعتبر أن فن البورتريه الذى تميز به - تلخيص للحياة على مسطح، وقال عنه إذا لم أحب ملامح من سأرسمه فلن تطاوعنى فرشاتى، فهو يقترب من الشخصية ويغوص فيها بالتعامل والحديث ليقتنص اللحظة المناسبة ويعبر عنها باللون والخط.. فقد تعلم من أساتذته أن الفنان أمام البورتريه يجب أن يشعر بأنه يخاطبه ليكون بينهما ترابط عقلى ووجدانى فهو يحول العمل الفنى من لحظة زمنية إلى لحظة أبدية ولو استطاع الفنان أن يقتنص هذه اللحظة فقد وصل إلى صميم فن البورتريه.

فركز بيكار يركز على مواجهة الشخصية التى يرسمها لأنه أعتبر العين هى لغة التحاور وهى اللقاء المباشر بين الفنان وبين من يواجه لذلك نرى شخصياته فى وضع ساكن لكنه حى، ونرى قدرته على أن يصطاد ويرسم الحركة الباطنية وليست الظاهرة للموديل ليؤكد أن الملامح الداخلية هى ما يعطى العمل الفنى قيمة، كما رسم شخصياته بتكوينات محكمة وبزاويا رسم اعتمد فيها على مصدر واحد للضوء وبدرجات لونية محدودة وكان أسلوبه يميل للانسيابية والتبسيط ومزج روحه الشفافة الحالمة بتلك الوجوه التى صورها فتألقت مسكونة بابتهالات الضوء الذى ينساب كالهمس يطل من أمام اللوحة ومن الخلفية وتنوعت مساحات الجمال مع تنوع ملامس السطوح التى نستشعر فيها دفء الصوف ورهافة الدانتيلا وبريق اللآلئ والأحجار الكريمة، وجاءت أغلب وجوهه لسيدات وذلك لاهتمام المرأة بالتألق وحب الظهور وأول ما يستدعى انتباهنا فى شخوص بيكار أصابعهم الرشقية التى تتعزل فيها الفرشاة وكأنها مخلوقة للعزف فعشق بيكار للموسيقى والعزف، على أوتار آلاتها هو الذى جعله يقدس تلك الأنامل التى تخلق السحر.

ومنذ تخرجه رسم نفسه فى العديد من الصور سجل فيها جميع مراحل عمره حتى أيامه الأخيرة التى ظهرت فيها ضربات فرشاته القوية.
 
ورغم أن بيكار ابن الإسكندرية، كما حاله محمود سعيد وسيف وأدهم وانلى، فأنه لم يظهر تأثير البحر فى لوحاته كثيراً، هذا لأن الصعيد عامة والنوبة بشكل خاص والتى قضى فيها زمناً  مدرساً للفنون، وكذلك الرسم الفرعونى، كان أعمق وأشد تأثيراً عليه من أى شىء آخر، فقد اشتهر بأسلوبه البسيط الواضح الذى يعكس تأثيره بالفن الفرعونى، لكنه تشابه مع مثالنا العظيم محمود مختار، فكانت نساؤهما تتصف بالجمال والشموخ والدقة والرشاقة، ويظهر هذا بوضوح فى لوحاته عن الحياة بالنوبة.. حيث اتجه بيكار فى الستينيات إلى عمل لوحات لعالم بعيد عن الواقعية والمباشرة وفن البورتريه.. وانتقل إلى شىء من الفانتازيا فكان موضوعه الرئيسى هو النوبة والريف الذى رسمه فى أحلى أوقاته خاصة وقت الحصاد، فقد أغرم بالنوبة وعشق أهلها وطبيعتها منذ أول زيارة له بها.. فجاءت تكويناتها كلها مزيجاً من التجريد والتشخيص حيث يلخص ويختزل التفاصيل وتموج اللوحة بالمسطحات والخطوط الحانية والأشكال المخروطية التى تستطيل فى شموخ، والفلاحة المصرية لها عند بيكار وضع خاص.. فهو يبرز جمالها ورشاقتها ودلالها رغم المقاييس الهندسية الصارمة التى شكلها بها وطمس ملامح وجهها.. فتأتى ممشوقة القوام تحس أن الأرض تغازلها من تحت قدميها، وتميز أسلوب بيكار بالبساطة والتناغم وقوة التعبير والمستوى الرفيع فى التكوين والتلوين، ولازمه فى لوحات ثلاثة رموز هى - العصفور - والبيوت والمرأة الجميلة الرشيقة خصوصاً الفلاحة، التى رسمها عبر أكثر النماذج ليونة وجاذبية واعتبرها رمزاً لأمه ولوطنه.

عشق بيكار إلى النوبة وجوها الساحر وبيوتها ووجوهها السمراء وجلبابها الأبيض ساعده على إظهار ميله القوى لإبراز التباين اللونى والضوئى بين الألوان المضادة فأبدع لنا العديد من الأعمال الخالدة التى تظهر فيها الخطوط مختصرة ويغلب على مساحتها التسطح وذلك لأن التجسيد «الفورم» بها محدود ماعدا بعض خطوطه البسيطة محكمة التكوين التى لا تفقد الشكل معناه وجماله.

وأثناء  زيارة بيكار للنوبة رشحه الفنان حسن فؤاد لرسم مشاهد عن تاريخ معبد «أبو سمبل» تفرغ لها عامين كاملين أنتج فيهما خمسين لوحة صغيرة وثلاثين أخرى يزيد طولها على أربعة أمتار نفذت جميعها بألوان الجواش، حيث توضح إنشاء المعبد منذ أن كان فكرة فى رأس رمسيس الثانى وكهنته ومعماريه إلى أن أكمل البناء وارتفع الصرح وضم المخرج الكندى العالمى «جون مينى» هذه اللوحات فى فيلم «العجيبة الثامنة».

كما جاءت الموسيقى التصويرية معزوفة لموسيقار طليانى مستوحاة من همهمات فرعونية قام بيكار بأدائها عزفاً على الطنبور وعرض الفيلم فى مصر وألمانيا وروما فى مهرجان السينما ونال الإعجاب والتقدير فقد أضيف إلى عجائب الدنيا السبع عجيبة ثامنة وفى الفيلم جاءت رسوم بيكار أقرب إلى البناء الديكورى التوضيحى لمراحل بناء المعبد.

وكما كان بيكار فنانا ذا ريشة مبدعة.. وشاعراً ذا فيتار مغردة.. وموسيقاه ذات نغمة ساحرة.. فكان أيضاً أديبا صاحب أسلوب مميز وأواخر الستينيات بدأت رحلة بيكار مع الكتابة فى الفن التشكيلى فى الأخبار تحت عنوان «ألوان وظلال» لتبقى كلماته وفنه بيننا حتى الآن.