الثلاثاء 30 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

كائنات الحزن الليلية

كائنات الحزن الليلية
كائنات الحزن الليلية


الصول سنوسى
 
 وضعت الأيام حملها الثقيل فوق التبة، ومضت بلا ذاكرة ولا ملامح، لم تترك خلفها غير صورة باهتة متآكلة الأطراف، عن ولد طيب، له عينان خضراوان كحقول البرسيم على ضفة النهر، ووجه صغير يفر من فوق أعمدة المعابد القديمة فى مدينة الموتى، ويبنى عشه على حافة السماء، وضحكة كفراشة ترتعش تحت المطر، وتسافر عبر مواقيت العشق والوجه، لم تترك خلفها.. غير صحراء صامتة موحشة، لا تمنح أسرارها للعابرين مع بداية الضوء، ولا تفك أكفانها القديمة للغرباء الضائعين فى دروب العتمة، لا شىء غير حزن طويل من أول العمر، حتى انفتاح المقبرة، لم يعد فى القلب مكان لحزن جديد، ولم يعد فى الذاكرة، مكان لموت آخر، لماذا لا يرى النور مثل الشيخ متولى؟ أليس وليا تقف على أكتافه الملائكة، حتى لا تصير الرؤيا توابيت مغلقة، والإطارات فارغة على الجدران القديمة.. للصور.. ولا رسوم.. لماذا لا يرى النور حتى لا يظل وحيدا رغم الزحام، ضائع تحت علامات المدن، وإشارات الشوارع، لا يظل يحمل الموتى فوق ظهره هو الميت الذى يبحث عن كفن؟
 
اللعنة على تلك الدنيا، وعلى العيال التى سرقت روحه واختفت فى المدى، أو تحت الشواهد الحجرية، وعلى تلك التبة التى عجزت أن تحل ضفائرها الطويلة فى الليالى الباردة، وتجىء العيال من الرعشة والمطر، اللعنة على تلك الليلة الطويلة، التى تعتبره على حافة التبة، حتى لا يأتى النهار، ويطلقه عبر فضاء آخر، غير ذلك الفضاء الصحراوى، الذى لا يتوقف عن العواء والنحيب، منذ اختفى الشاويش عمر، وبعده بشهرين، غادر الولد مصطفى التبة لآخر مرة، إلى قريته الصغيرة على أطراف مدينة المنصورة، لماذا لا تنتهى تلك الليلة، فيحمل مخلته وحزنه، ويرحل إلى تلك المدينة الصغيرة، التى تستند على الصهريج، تأخذه فى صدرها، فيشم رائحة الخبز، وحقول الفول الأخضر، وأزهار الليمون والجوافة وأزهار البانسيانا الحمراء فى شارع مجدى ويأكل الذرة المشوية على راكية النار، بعد أن يسرقه العيال من الغيطان القريبة، ويجلس مع العيال فى الوسعاية تحت أعمدة الإنارة الشاحبة، يحكى لهم عن ولد نوبى، مات وهو يغنى، وعن ولد كان يغنى لوابور الساعة اتناشر المجبل على الصعيد، فخطفته الدنيا، ومضى الوابور دون أن يتوقف عند بلدة صغيرة بعيدة على ضفة النهر، لكن الليلة تأبى أن ترحل، أن ترخى قبضتها قليلا حول رقبته حتى لا يختنق، وهو عاجز عن النوم، عاجز عن ترويض تلك العتمة البرية، وشخير ماكينة الطحين الخربة داخل الملجأ لا يتوقف، وسجائره كادت تنفد، قال له الجد عزب الزمان.
 
- انس الزمان.. ينساك.
 
- لكنه لا يستطيع لا الآن ولا قبل ذلك أن ينسى الزمن الذى يطارده.
 
ولا يعرف كيف يفر منه، وهو يترصده كل لحظة، وينبح فى وجهه بشراسة، سحب نظارة الميدان، أخذ يراقب النجوم التى ترتعش كأنها فى لحظة وجد صوفى، كان الولد صابر يسمى النجوم بأسماء العيال فى الوسعاية، ومات فى الحرب دون أن تكون له نجمة، ترى.. أين نجمة الولد عبدالمجيد؟
 
 
لابد أنها تلك النجمة التى يطلقون عليها أخت القمر، لأنها تهتز دائما تحت وطأة العشق والصبابة، وترتعش غناء وشوقا، بدا فجأة طائر الضوء يرف فى رخاوة على حافة السماء، وضع النظارة جانبا، أراح رأسه على شكائر الرمل، أغمض عينيه لعله يرى ما لا يستطيع أن يراه فى الظلمة.
 
∎ الشاى يا يحيى
 
 فتح عينيه.. كان الولد عبدالعزيز يقف أمامه، وفى يده كوب شاى، أخذه وبدأ يشربه بسرعة، وهو يحس بمرارة غريبة فى حلقه، وضع الكوب جانبا.. نهض واقفا.. سلم على الولد عبدالعزيز، فبدأت كتلة اللحم السيىء فى الاهتزاز والارتعاش، وعده أن يرد على خطاباته، رغم أن العيال يؤكدون أن صداقة الأراوانة، تسقط دائما فوق أسلاك الكتيبة الشائكة، صافحه العسكرى الجديد بحرارة، رغم أن يحيى لم يهتم حتى بتذكر اسمه، فقد تشابهت الأسماء والأيام بعد اختفاء الشاويش عمر، حمل المخلة على كتفه، أمسك بالبندقية فى يده، وبدأ يهبط التبة مسرعا.
 
حتى وصل إلى الطريق الأسفلتى الضيق، وضع المخلة جانبا ووقف ينتظر عربة تقله إلى قيادة الكتيبة ليسلم المهمات، ويغادر تلك الصحراء التى عذبت، وملأت قلبه المتعب الضائع، المشنوق على حافة الدنيا، بالرمل والألم، وصور باهتة تبحث عن ملامحها سدى، وملامح تبحث عن روحها دون جدوى، التفت رغما عنه ناحية التبة، كانت كتلة اللحم السيىء والعسكرى الجديد يقفان متقاربين على حافة التبة، كتمثالين من الطين الذى لم يجف بعد، انتابته رغبة عارمة أن يعاود الصعود مرة أخرى، يجلس مع العيال، يشرب شايا أسود، يقرأ كتاب الصحراء للمرة الأخيرة، لعلها تبوح له بأسرار العيال الذين ضاعوا على حافة الماء، لكن العربة العسكرية المتهالكة التى توقفت فجأة، ردته إلى نفسه، فقذف المخلة داخلها وقفز خلفها بصعوبة.
 
 انطلقت العربة بسرعة عبر الطريق الصاعد الهابط، وهى ترتج بشدة، وتهتز جوانبها الخشبية حتى تكاد تنخلع من مكانها، بدت التبة من تلك المسافة، ظلا رماديا شاحبا، يذوب تدريجيا وسط ظلال الفضاء الصحراوى الكابى، ثم تلاشت تماما، وانفتحت عباءة الصحراء، أسند رأسه على المخلة، وتمدد فوق أرضية السيارة المتسخة، أشعل سيجارة، راح يدخنها وهو يراقب السماء، السماء هنا غير سماء الوسعاية، خيول برية تركض غاضبة منذ بداية الضوء، ولا تتوقف عن الصهيل، فتهاجر العصافير فزعة حتى حافة الظل، ولا تبنى الطيور التى لا تتوقف عن الرحيل أعشاشها فوق جسدها المحموم، وفى الليل.. تبدو أنثى غامضة، ينام القمر بين نهديها أيقونة من الفضة، ويتعرى الجسد المنهل من الركض والصهيل النهارى، تحت الضوء الأيقونة، فى انتظار طائر غريب يمنحها لحظة من العناق، لكنها.. لا تمنحه جسدها أبدا، سماء الوسعاية فلاحة طيبة، تلعب مع العيال فوق المربعات البازلتية السوداء فى سوق اللبن، وتطير الحمام فوق قمة الصهريج، وتنام فوق عربات الباعة الجائلين فى الحوارى الضيقة، وفى الليل تلتف بطرحتها السوداء وتحمل مصابيحها لتضىء للعيال دروب العتمة، فيبدأ همس العشاق، وبكارة القبلة الأولى.
 
توقفت العربة فجأة، نهض يحيى مسرعا، نزل ببطء مستندا على كابينة السيارة خشية السقوط، شكر السائق الذى انطلق مسرعا دون أن يسمعه، عبر الحاجز الحديدى، دار حول العربات الواقفة فى الورشة، والملاجئ المتناثرة على أطراف الكتيبة، حتى وصل إلى مكتب الصول عادل، الذى يحمل مشطا دائما فى جيب الأفرول، ليمشط شاربه الكث، الذى يكاد يصل إلى أذنيه الكبيرتين بين الحين والآخر، ثم يلعقه بلسانه، سلم المهمات وأنهى الأوراق الخاصة بانتهاء خدمته.. وخرج.. شعر أنه قد أصبح خفيفا فجأة، لدرجة القدرة على التحليق فوق تلك الأرض، التى لا تنبت فيها غير أجساد نحيلة سمراء متعبة، ووجوه تبدو على حافة الملاجئ المغطاة بشكائر الرمل، كالمصابيح المطفأة فى ليالى الغربة، والأسلاك الشائكة التى تكسر الروح، وتسجنها فى المنافى البعيدة، لكن رغبته فى التحليق، حطت فجأة فوق الباب الخشبى الملىء بالشقوق، لمكتب الصول سنوسى، ذلك الرجل الذى كان يقف فجأة عندما يراه، ويصرخ بصوته المبحوح:
 
∎ يا زخارف.. لسه بتاكل السجاير؟
 
- ثم ينفجر فى الضحك، يرتج جسده الضخم، وكرشه الكبير المستدير، الذى يبدو دائما من فتحة الأفرول الضيق القصير، كأنها تل رملى على وشك الانهيار، لا يعرف يحيى على وجه التحديد، لماذا أطلق عليه هذا الاسم، ولا لماذا يضحك حتى يتحول إلى كتلة هائلة من اللحم، لا يبدو من ملامحها، غير ثقبين صغيرين ضيقين، كلما ناداه بهذا الاسم، كل الذى يعرفه، أنه أحب هذا الرجل الواقف على مشارف الدهشة والبراءة، فى صحراء وحشية لا تعرف البراءة وتصبح الدهشة طقسا يوميا يتأرجح فوق مساحة الرمل، ثم يسقط كطائر غريب فوق الأسلاك الشائكة، فتحمل الريح ريشه الدامى إلى ليل طويل عجوز، لا يرى ما نراه، دفع الباب الخشبى بهدوء، انكسر الضوء على حواف الملجأ، بدا الصول سنوسى جالسا بالفانلة الداخلية، يجفف وجهه بين الحين والآخر بقطعة قماش متسخة عندما يسقط العرق الملحى فى عينيه، رغم المروحة الحديدية القديمة. الموجودة فوق صناديق الذخيرة الفارغة بجواره، أمامه.. أمامه حلة كبيرة مليئة باللحم، يدب أصابعه الغليظة فيها، فتخرج بالقطعة التى يغطيها الدهن، يدفعها إلى فمه بسرعة غريبة، ويبدأ فى التهامها وهو يلهث ويشحر وتجحظ عيناه، كأنه يطلع فى الروح، تتساقط   البقايا الدهنية من بين أصابعه، فوق وجهه اللحمى المنتفخ، والفانلة التى صارت كالحة اللون، تعود الأصابع إلى الحلة بنفس السرعة والمهارة، لتخرج بقطعة أخرى، كأنها أصابع آلية تعمل حركة ميكانيكية، مضبوطة على إيقاع واحد لا يتغير، عندما رفع رأسه واستدار ناحية الباب، ورأى يحيى واقفا يتابع المشهد بدهشة، ارتبك.. بدا عليه الغيظ والقهر، كأن ذلك الواقف أمام الباب الخشبى، قد ضبطه عاريا فى لحظة حميمية، قال من بين أسنانه
 
- مش ها أعزم عليك يا زخاروف.. واوعى تمد إيدك.
 
ضحك يحيى كثيرا.. قال إنه جاء ليودعه، وأنه يكتفى بكوب شاى فقط فى الصباح، وهو يأكل السجائر، شعر الرجل بالخجل، أقسم ألا يمضى قبل أن يشرب الشاى معه، وضع الغطاء المغطى بطبقة سميكة من الدهن فوق الحلة، ودفع بسوءته بسرعة تحت السرير الحديدى، غسل يديه.. ارتدى الأفرول، وضع البراد فوق الوابور، وجلس قبالة يحيى، بعد أن أدار المروحة الحديدية ناحيته، سأله يحيى عن أخبار الشاويش عمر، قال أنه لا أحد يعرف أين اختفى، ولا حتى أهله فى تلك القرية البعيدة على ضفة النهر، كأن الأرض انشقت وابتلعته، ثم قال وهو يجفف عرقه بقطعة القماش المتسخة.
 
- لا حد عارف حى ولا ميت.. هربان من الدنيا.. ولا تايه فيها يا ولداه.
 
شربا الشاى فى صمت.. عندما هم يحيى بالوقوف.. أعطاه الصول سنوسى عنوانه فى السيدة زينب، ليسأل عنه، ربما كان فى إجازة، فيأخذه إلى حضرة السيدة، لأنه من محاسيب الست، سلم عليه، وسار بخطوات متثاقلة ناحية الباب.. توقف فجأة.. سأله:
 
تفتكر هايرجع؟!
 
- الدنيا ما بترجعش حد يا بنى.
 
أغلق يحيى الباب، سار عبر الرمل حتى الطريق الأسفلتى، توقفت سيارة ميكروباص.. انحشر بين الركاب.. وكان عبدالوهاب يغنى:
 
 قد يهون العمر إلا ساعة.. وتهون الأرض إلا موضعا.