الأربعاء 26 يونيو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
راقص على كرسى متحرك

راقص على كرسى متحرك

فى حياتنا اليومية نقابل أشخاصًا أو نَمُرُّ عليهم مرور الكرام دون أن ندرك أنهم أبطال خارقون أكثر ممن نتابعهم فى أفلام الكارتون!.. نعم أبطال لا يسمحون لأنفسهم بالتعثر والسقوط فى منحنيات الحياة التى قد تكون أحيانًا فى غاية الصعوبة والقسوة معًا، لكن هؤلاء الأبطال تأتى لهم رسائل سماوية مع المحن التى يتعرضون لها بأن الحياة تستحق المقاومة والحياة جديرة بالعيش.



كان يرقص على كرسى متحرك مع فراشة متمكنة من أدواتها فى الرقص الحديث، يحلقان معًا ويؤديان حركات فى منتهى التناغم والجمال.. لم يكن يمشى على قدمَيه لكنه أخذ من الكرسى المتحرك جناحين يُحَلق بهما ويقفز فى الهواء الطلق معلنًا «لا شىء يعلو فوق صوت الإرادة وحب الحياة».. إنه محمود الجزار، أحد مصابى العمود الفقرى!، وما أدراك إصابة العمود الفقرى!!، إنها تتراوح نتائجها ما بين أن يعيش حياته كلها مستلقيًا على سرير أو يكون من المحظوظين الذين يعيشون على كرسى متحرك!.

لكن كيف للشاب الرياضى محمود، ابن العشرين ربيعًا، الذى كان يدرس السياحة ويخطط لمستقبل مشرق يجوب فيه أرجاء الكرة الأرضية، أن يجد كل جسمه يرتدى القميص الجبسى وممددًا على السرير بعد أن كان لاعب كرة فى فريق أول (العياط) ويمد قدَمَيْه فى أرجاء الملعب ويطير فى الهواء فور إحراز هدف أو يجرى على زملائه ليتعانقوا لفرحة الفوز!!، بالتأكيد مرارة وحُزن ويأس سكن قلب وعقل محمود ابن العشرين عامًا وقت الحادث، لدرجة أنه اعتزل الناس، بل إنه فكر فى مغادرة الدنيا، لكن من رحمة الله أنه يُولد من رحم الآلام دواء، ومن رحم النهايات بدايات جديدة قد تكون أكثر إشراقًا.

من داخل مركز العلاج الطبيعى جاءت له رسالة ربانية قوية حين وجد حالات أصعب منه بكثير، فأدرك أن عليه شرف المحاولة لتحويل النقمة إلى نعمة، والاختبار الكبير إلى تحد ونصر كبيرين.  بعد ثلاث سنوات من الإحباط  والاكتئاب واليأس أدرك أن فى حالته التى وصل إليها يحتاج إلى علاج تأهيلى وليس مجرد علاج طبيعى، تأهيل لحياته الجديدة عبر كرسى متحرك يتحرك به داخل البيت ويمارس حياته كاملة من خلال كرسى متحرك، بعد أن ألهمه الله فكرة أن الإعاقة فى العقل والقلب وليس فى الجسد، وأدرك أيضًا أن هناك بعض الأصحاء جسديّا لكنهم معاقون فى تفكيرهم ونظرتهم للأمور.

• حصد الجوائز

فكر «محمود» فى الرياضة لكى تكون الملاذ له، فقد كان منذ سنوات قليلة مضت كان على وشك أن يلعب فى أحد أندية الدرجة الأولى لكن القدر لم يمهله الفرصة فقرر هو أن يقتنص فرصًا أصعب، فبدأ برفع الأثقال وتدرّب فى نادٍ محدود، وكان التدريب ليس بالشكل السليم علميّا فترك رفع الأثقال واتجه إلى السباحة وأحبها وحقق مراكز ثانى وثالث على مستوى الجمهورية، وأثناء تدريبات السباحة التى تمد الجسم والعقل بالطاقة الإيجابية، ثم تعرّف «محمود» على رياضة قوس وسهم فلم يحلم بمجرد المشاركة لكن تطلع إلى حصد الجوائز، وبالفعل حصد أربع ميداليات ذهبية، وثلاث ميداليات فضية وميدالية برونزية، مع كل جائزة رياضية كان يشعر «محمود» بأن جزءًا من إرادته يكتمل ولا أحد يستطيع أن ينظر إليه على أنه معاق، هو لديه مجرد إصابة فى العمود الفقرى، مثله مثل باقى أقرانه الذين يسيرون على أقدامهم، ولكن كيف وهو لا يستطيع أن يسير على قدميه؟! هكذا فكّر وأجاب نعم لا أمشى على قدمَى لكنى أستطيع أن أرقص.. ولِمَ لا وأنا أملك الإرادة؟!.. هكذا قال محمود الجزار لنفسه وهو يتقدم لتعلم الرقص المعاصر، وهو حاليًا عضو فى مسرح الشمس الخاص بوزارة الثقافة، وتطوّر أكثر وأصبح يدخل فى الدراما كممثل بالفرقة ثم أيضًا تدرّب على الغناء ليصبح مطربًا فى فرقة الأصالة ربيع العمر، كل ما يتسلح به «محمود» هو الإصرار والإرادة التى أصَرّ على ألا يصيباه بالإعاقة الروحية.

• أفق horizon

بساحة الجامعة الأمريكية بوسط البلد كان العرض الذى أبهر الجميع ليس فقط بمحمود الجزار لكن أيضًا بشريكته فى العرض سلمى سالم، تلك الفنانة ذات الطراز الراقى فكريّا وفنيّا. فهى خريجة جامعة أمريكية علم نفس، اشتغلت فى مجال ذوى الاحتياجات الخاصة ضمن مجموعة داليا سليمان مع أطفال التوحد لتدريبهم على (الفيزيكال تشالنج)، وقد حققت نتائج مبهرة، إضافة إلى أنها راقصة رقص معاصر بدأت رحلتها مع الرقص من عمر السادسة وهى ترقص البالية، ثم الجاز ثم فلامنكو ثم الهيب هوب، وبقدر روعة انسجام حركتها وروحها مع محمود الجزار أثناء العرض الذى حصد تصفيق وإعجاب الحاضرين بقدر ما كانت تملك من نكران للذات وإشادة بروح الراقص الذى يتمتع بروح وإرادة قويتين وهى تؤكد أن العرض كان من وحى روحه الحلوة التى لا تعرف الاستسلام.

شيماء شكرى، مخرجة ومدربة العرض، هى قصة جميلة أيضًا فى تصميم الرقص المعاصر، فهى درست الفنون الجميلة بالجامعة الأمريكية ودرست «رقص حديث» بمركز الإبداع بالأوبرا ودرست فى استوديو عماد الدين ودرست مع الفنانة كريمة منصور ثم درست كيف تدرس ومع كل هذه الخبرات والدراسات وفى عام 2016 ساعدت مصممة هولاندية لتقديم عمل لذوى الاحتياجات الخاصة.. وعن محمود الجزار تحكى شيماء: إن العرض كفكرة ومضمون يعتمد على كيفية تطوير أدوات «محمود» للتعبير عن نفسه، كنا قد بدأنا بورشة عمل مفتوحة اخترت من كل المشاركين شخصًا واحدًا هو محمود الجزار، الذى بدأتُ معه تدريبات على أنه ينمى قدرته الفيزيقية لكى يستطيع أن يُعبر بحركات مختلفة إذا أراد أن يلف أو ينقلب أو يقوم من مكانه، وقد كان.. إنه استطاع أن يقوم بحركات فى العرض لا تصدق أن مصابًا بالعمود الفقرى يمكن أن يقوم بها. وعن سبب اختيار محمود الجزار دونًا عن كل المشاركين بالورشة، تقول شيماء: كان ملتزمًا ولديه شغف ويريد أن يحقق شيئًا، ولديه عزيمة، إنه يجرب، وهؤلاء من يبهروننا، فأنا لا أومن بالموهبة لكن أومن بالمحاولة.

«محمود» استطاع أن يرقص بالكرسى لأنه أحب الرقص المعاصر ووجد أنه أكثر حاجة متكاملة، فهو يقدم عروضًا فى مهرجان DEkafe للعام الرابع على على التوالى.. فى العروض السابقة كان تحت قيادة أجنبية لكن فى هذا العرض (أفقى) كان تحت قيادة المصرية شيماء شكرى التى يقول عنها: الفضل بعد الله فى نجاحى فى تقديم عرض بهذه (اللياقة) يرجع للمخرجة ومدربة العرض شيماء، فهى دربتنى بشكل صحيح وساعدت عضلاتى للوصول للشكل الأنسب، وهو ما لم يفعله معى دكتور العلاج الطبيعى. ويثنى «محمود» على شريكته فى العرض سلمى سالم، التى بذلت مجهودًا رائعًا معه وتغلبت على خوفها حين اقترح أن يمر فوقها بالعجلة المتحركة فى حركة فى قمة الصعوبة والتحدى فى الوقت ذاته، لكن كان لديه حلم جامح فى تقديم شكل متكامل جمالى وفنى بالعرض الذى استمر 25 دقيقة.

•أفاق جديدة

«محمود الجزار» لم تُعقه السنوات عن التوقف عن التعليم، فبَعد أكثر من ثمانى سنوات على إصابته وترك دراسته للسياحة قرر أن يكمل تعليمه واختار الإعلام، لكن بعد شهر أدرك أن دراسة الإعلام لا تناسبه فقرر التحويل إلى كلية التجارة جامعة القاهرة، وحين وجد بالجامعة فريقًا للكرة الطائرة (جلوس) اشترك فورًا، وفى أول مشاركة له حصل فريق جامعة القاهرة على المركز الثانى، كما شارك فى فريق تنس الطاولة بالجامعة.. ورُغم أن الفرق الأخرى كان بها أبطال عالم فإنهم استطاعوا أن يحصلوا على المركز الثالث، وهو يستعد للتخرج هذا العام وعمره 34 سنة، أى أنا استطاع فى الأربعة عشرة عامًا الأخيرة من عمره أن يعيش حياة حافلة بالمجهود والنجاح والتحقق والرقص المعاصر الذى يرى أنه أكثر شىء يحبه؛ لأنه- كما يقول عنه- أكثر شىء متكامل.