الأحد 19 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

العمة سكينة

كانت لى عمة اسمها سكينة وهى كانت فعلا نبعًا للسكينة والبراءة والشفافية.. حصلت على قسط معقول من التعليم وكرست ما تعلمته فى التقرب الدائم من الله.. فهى لم تكن تبغى من الدنيا سوى رضا الله ولقاءه بقلب نظيف لم يحمل يومًا ضغينة ولم يعرف يومًا كراهية.. ببساطة شديدة لأنها لم تكن تعرف معنى لهاتين الكلمتين ولا تستطيع تفسيرهما.



كانت تأتى لزيارتنا فى القاهرة لتقضى معنا بضعة أيام كلما استطاعت أو حينما نتواجد نحن فى مصر.. كنت أحب دوما أن أترك لها فراشى تنام فيه وأن أقوم على خدمتها حتى أنال من دعائها الطيب ما يسر قلبى ويشعرنى أنى أصبحت محصنة من كل شر لأنى كنت على يقين أن الله يستجيب دائمًا دعاءها من فرط طيبتها.. وعلى الرغم من كبر سنها إلا أنها كانت خجولة إلى أقصى درجة تخفض صوتها وعينيها وهى تتحدث إلى أبى.. كنا نقنعها بالكاد أن تشاهد معنا التليفزيون.. كانت تشاهده والدهشة تملأ وجهها ولم تكن تستطيع أن تستوعب كيف لنا أن نشاهد فى حضرة أبى الراقصة سهير زكى دون خجل..كانت وجنتاها تحمرّان من شدة الخجل وتغمض عينيها وتضع طرحتها على وجهها وهى تديره إلى الجهة الأخرى بعيدًا عن الشاشة.. وتهمس لنا «عيب يا بنات اقفلوا التليفزيون» وكنا نضحك من ردة فعلتها.

كانت تشعر براحة أكبر عندما تفترش الأرض فى الشرفة وأجلس بجوارها لتحكى لى كيف أنها عندما كانت أصغر سنا حضرت إلى القاهرة لتزور سيدنا الحسين واصطحبها أبى وعمى اللذين كانا يقيمان فى القاهرة لاستكمال دراستهما الجامعية إلى منطقة الحسين وكانت هى تتعلق فى ذراعيهما خوفًا من أن تضل الطريق وأثناء سيرها تعلقت فى طرف طرحتها مكحلة لأحد الباعة المتجولين ولم تنتبه لذلك إلا عند عودتها إلى المنزل.. فطلبت من أخويها أن يعودا مرة أخرى إلى الحسين لإعادة المكحلة، وعندما سألها أبى هل تتذكرين مكان البائع أجابت بالنفى.. فقال لها عمى إنه لا جدوى من العودة مرة أخرى طالما لا تتذكر البائع أو المكان.. فأخذت تبكى وتترجاهما أن يعيدا المكحلة مرة أخرى حتى لا يقال إن سكينة سرقت مكحلة.. وعندما قالا لها إن لا أحد فى القاهرة يعرف سكينة أجابت وهى تبكى بحرقة إن الله يعرف أن سكينة فى القاهرة وتقاعست عن إعادة المكحلة.. ورضخ أبى وعمى لها فى النهاية وعادا يبحثان عن البائع حتى لا يقول سكان القاهرة بأنها سارقة المكحلة.

وعلى الرغم من أن زوجها تزوج عليها لأنها لم تنجب له الذكور كانت هى من ذهبت لبيت العروس لخطبتها لأنها كانت تريد أن ترى زوجها سعيدًا.. وهى من قامت بتربية أولاد ضرتها ورعايتهم وكانت تفعل ذلك بمنتهى الطيبة والحب والرضا.. ألم أقل لكم أنها لم تعرف معنى الكراهية أو الضغينة.

رحلت عمتى عن دنيانا منذ سنوات طويلة فى هدوء شديد وبساطة تشبه روحها لكننى لن أنساها أبدًا وأشعر دائمًا بدعواتها لى بالستر ومحبة الناس ترافقنى أينما ذهبت.. لا أدرى لماذا أشعر دائمًا أن هؤلاء الطيبين عندما يرحلون يأخذون معهم شيئًا من الأمان والسكينة والبساطة ويتركوننا فى دنيا صاخبة تتجرد يومًا بعد الآخر من إنسانيتها ومروءتها.