الخميس 16 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

كائنات الحزن الليلية

كائنات الحزن الليلية
كائنات الحزن الليلية


لم تتوقف الأمطار الغزيرة منذ الصباح، حتى بدأت الشوارع الخارجة من طقوس الغسل، ترتدى معاطفها الثقيلة، وتنكمش على نفسها، وترتعد حين يداهمها الموج الذى يقفز من فوق سور الكورنيش الحجرى الواطئ، يخلع قلنسوته البيضاء على حافة الجسد الأسود، ثم يرتد ثانية إلى السور الحجرى، وينام تحت المقاعد الخشبية، التى لا تزال تحتفظ بمواعيد الغرام، ورائحة العشاق، وطعم القبلات المسروقة، قال الولد حسن المرشدى إنها إحدى النوات التى يحفظها الناس فى الأحياء الشعبية القديمة، والصيادين فى الأنفوشى وحلقة السمك، شعر يحيى بالبرد الشديد يخترق ملابسه الشتوية الثقيلة، ويخمش بأظافره الثلجية عظامه الواهنة المتعبة، التى ورثها عن الجدة نجية، فيزداد ارتعاشا.
 
وتتجمد أصابع قدميه داخل الحذاء اللعين الذى اكتشف فجأة حين هم بارتدائه، أن الثقب الموجود بالنعل، قد اتسع وأصبح بحجم العشرة قروش المعدنية، ولم يكن أمامه بعد أن أغلقت المحلات أبوابها تحت وطأة المطر والبرد إلا أن يضع علبة سجائر فارغة داخل الحذاء، ليسد بها الثقب مؤقتا، فضاق عليه قليلا، لابد أنها تآكلت الآن، لأنه يشعر أن كرة من الثلج تلتصق بقدمه، فتموت تلك الدائرة الجلدية التى بحجم العشرة قروش شيئا فشيئا، نهض مسرعا.. أغلق النافذة المفتوحة فى منتصف عربة الترام الخالية، وعاد إلى مكانه فى مواجهة حسن المرشدى الذى استند برأسه على زجاج النافذة البارد، وبدأ شخيره الذى يشبه احتكاك علبة من الصفيح بأسفلت الشارع يتعالى.. راح يحيى يراقب الكمسري العجوز الجالس فى بداية العربة، مرتديا البالطو الصوفى الأصفر الثقيل ذا الأزرار النحاسية التى تتدلى بشكل غريب كأنها تحاول الفرار من ذلك العناق الصوفى الخشن، إلى رحابة الأمكنة، وطاقية صوفية تخفى نصف ملامحه، وقد وضع حقيبته الجلدية بجواره، وأشعل سيجارة، يقطع بها مساحة الملل الشتوى، ما بين بداية الرحلة، ونهايتها حيث الدفء، وكوب الشاى الساخن.
 

 
نزل يحيى وحسن فى محطة باكوس.. سارا عبر الشارع الضيق الغارق فى المياه والوحل، وعربات اليد المغطاة بالمشمع المربوط بالحبال وفوقه بعض القطع الحجرية، تبدو بامتداد الشارع كالتوابيت القديمة الواقفة على مشارف الدفن، وطقوس الموت الذى يرف قليلا، ثم يحط على حافة المقبرة، صعدا إلى الرصيف الذى تحتله بقايا الباعة والمحلات المغلقة، وأقفاص الخضار الفارغة، بدأت الكلاب التى كانت ترقد فى رخاوة بين عربات اليد تمد رأسها إلى الأمام، ونبح برعونة، حاول يحيى أن يوقف تلك الرعشة التى راوغته وفرت إلى أطراف أصابعه، حتى لا تشم رائحة خوفه وتهاجمه، مثلما هاجمته تلك الكلبة الغبية، فى مدخل بيت الخالة رشيدة الترابى، يومها أخذوه إلى مستشفى الكلب وأخذ واحدا وعشرين حقنة، التقط الولد حسن حجرا صغيرا فقذفها به،  فتراجعت قليلا وراحت تعوى بصوت خافت، سرعان ما تحول إلى نباح أكثر شراسة، بدت الأنياب البيضاء الحادة، تحت المطر المتساقط، وضوء أعمدة الإنارة الأصفر الشاحب، كأنياب وحش خرافى، يكمن فى عتمة الظلال الرمادية، ويحرك رؤوسه المتعددة فى ذات الاتجاه ، ازداد ارتعاش يحيى، تمتم بخوف وقرف:
يوم أسود من أوله.. ما كنش ناقص غير الكلاب؟!
انحرف الولد حسن فجأة إلى أحد الأزقة الضيقة شبه المظلمة، فهو الذى يحمل عنوان الولد نجيب... أسرع يحيى خلفه وهو يتلفت وراءه خشية الهجوم المفاجئ وهو يلعن فى سره حسن المرشدى ونجيب، وجنونه الذى دفعه للخروج فى تلك الليلة التى تنشب أظافرها فى الجسد المتعب والروح الضائعة، توقفا أمام أحد البيوت القديمة تأكد حسن من الرقم المكتوب على الحائط بخط أسود، ثم دخلا إلى الفناء الذى تفوح منه رائحة عفنة، قال الولد حسن:
يبدو أنهم يدفنون موتاهم فى هذا الحوش.
صعدا السلم الحجرى الضيق، وهما يلتصقان بالجدار، خشية الاستناد على الدرابزين الخشبى المتهالك حتى وصلا إلى السطح حيث توجد غرفة الولد نجيب، وبجوارها مجموعة من البراميل الخشبية الكبيرة المغلقة، عرف فيما بعد.. أنها لصاحب البيت الذى يمتلك محلا مشهورا لبيع الفسيخ والسردين فى أول الشارع، ولابد أنها سبب تلك العفونة التى لازمته فترة طويلة، وجعلته يفرغ ما فى جوفه طوال الليل، رغم أنه لم يأكل شيئا كان العيال يجلسون فوق السرير الحديدى الضيق، والحصيرة القديمة المتآكلة على الأرض، يدخنون ويشربون الشاى، قام الولد نجيب.. فتح النافذة الصغيرة التى تطل على البراميل الخشبية، وهو يقول ضاحكا:
الأوضة بقت عاملة زى عربية البطاطا.. هانتخنق الله يخرب بيتكم.
رد الولد حسنى:
- نتخنق من السجاير أرحم ما نتخنق من الفسيخ.
أنزل البراد من فوق وابور الجاز صب كوبين لحسن ويحيى، وعاد يتكوم على الحصيرة بجوار الولد تيمور، أخذوا يتحدثون عن عام الحسم، الذى مضى دون حسم، وعام الضباب، والموت الذى يختبئ خلف التلال الرملية، وحتى ساحل البحر، والحزن المعلق على الجدران داخل براويز سوداء قديمة، والخوذ التى تطل من جوف الخنادق، بحثا عن نهار لا يأتى أبدا، وضع الولد تيمور كوب الشاى بجواره على الأرض، فرد ساقيه قليلا، وبدأ يحكى عن ذلك الولد النوبى الأسمر، الذى وقف فى الميدان تحت ظل الكعكة الحجرية غنى بصوت جميل حزين كتغريدة الملائكة على حافة الغروب، فساد الصمت والدفء، كأن صوته يخبئنا من البرد والعتمة،  ويمنحنا قلبه الطيب، رغيفا من الخبز، وكوبا من الشاى، كانت الليلة باردة ثقيلة مثل تلك الليلة، والعيال تطلع فى الميدان كأزهار برية ملونة بعد القبض على المعتصمين فى جامعتى القاهرة وعين شمس كان الشيخ إمام قد توقف عن الغناء، عندما وقف الولد النوبى تحت الضوء كتمثال من الأبانوس، وبدأ يغنى.. حطت العصافير على صوته، ثم طارت فى المدى، فصار المدى وطنا.. وصار الوطن طفلة تحل ضفائرها، وتطير القمر فوق النخيل، والبيوت البيضاء التى تنام فى وداعة على حافة النهر.. وصار النهر عروسة نوبية تخضب كفيها بالحناء.. وتنتظر طقوس العرس.
فى الخامسة فجرا.. حين بدأ الضوء يرف حول الميدان كيمامة برية، ثم يحط فى رخاوة على حافة النصب الحجرى، وحين بدأ البرد يختبئ بين اللحم والأوردة، صار الميدان غابة من الخوذ الحديدية والهروات والدروع، وتداخلت الأجساد المتعبة وارتفعت الأيدى النحيلة وهاجرت الأصوات من حناجرها، حتى أطراف الميدان البعيدة، تضيق دائرة الموت الصارخ ، حول خاصرة الكعكة الحجرية.. ولم يتوقف الولد النوبى عن الغناء طار الضوء اليمامة تحت وطأة الدخان، واختبأ بعيدا، صهلت خيول الموت الجامح، داست فوق الحناجر التى صرخت.. أنا المقتول عشقا فيك يا وطنى، وفوق الأجساد المرتعشة التى تحاول الفرار سدى.. ارتفع صوت المغنى عاليا، انبثق الدم وانفجرت الأوردة.. ومازال المغنى يغنى عندما عادت يمامة الضوء ترف مرة أخرى فوق الكعكة الحجرية، كانت الهراوات والخوذ الحديدية والأحذية الثقيلة تدوس بقايا الدم والأغانى الجريحة، وزجاجات المياه، والأوراق المبعثرة والقصائد التى استراحت لحظة فوق الحناجر المتعبة، ولم تحلق مرة أخرى، وقرط فضى، تتدلى منه نجوم صغيرة ملونة، وكان الولد النوبى.. يستند برأسه المغطى بالدم على القاعدة الحجرية، ويحاول أن يغنى.. لكن العصافير حطت على شفتيه.. أخذت صوته وطارت بعيدا بعيدا.. حتى آخر الدنيا، وارتعش قليلا وابتسم، ثم أغلق عينيه.
صمت الولد تيمور.. أراح رأسه للوراء ثم بدأ يدندن بلحن نوبى حزين.. خرج يحيى إلى السطح، كانت السماء كابية، والمطر يتساقط مازال، صرخ بعزم الروح.
يا عبدالمجيد.. يا زقزقة العصافير فى الوسعاية.. كان لازم تموت؟!
ثم أجهش بالبكاء.
يرسمها : سامى امين