الفساد فى مصر ـ 18 ـ الجمعية التى تأتى منها العثرات!
«تعرضت صديقتى التى تعمل فى واحدة من كبرى الجمعيات الأهلية للسرقة المالية والأدبية من قِبَل الإدارة التى تسيطر على الجمعية منذ أكثر من ٤٠ عامًا؛ أفقدتها القدرة على الإبداع والمنافسة، وحوّلتها إلى مكتب استثمار أموال، لا تمتلك سوى مهارة التلاعب بالمِنَح والتمويلات، ورواتب الموظفين، وتزوير التوقيعات والأوراق والمستندات، وتمريرها من خلال الرشاوى التى تقدمها لفِرَق من صغار وكبار موظفى الدولة والشخصيات العامة، فقتلتْ قدرات الموظفين، وأفسدتْ ضمائرهم، وبددت روح الرسالة التى اجتهد المؤسسون الأصليون لتحقيقها، فتحوَّل تاريخها من القمة للقاع».
ابتلَعَتْ إهانة قيمة راتبها الهزيل- الذى قرره المدير والخواجة- نظير دورها كمسئولة مكون التواصل ببرنامج الإصلاح، ثم أقنَعَتْ نفسَها بأن مجرد حصولها على راتب- مَهما يكون قيمته- يعنى اعتراف الخواجات بدورها! وفى الوقت نفسه؛ وضَعَتْ فى قلبها أن تحث زملاءها فى البرنامج على المطالبة الجماعية بتعديل قيمة رواتبهم الضعيفة التى تدل على استهانة الممولين والهيئة الأجنبية بقدراتهم واستعلائهم عليهم!.
سألتها عن سر موافقة المدير على تحديد تلك القيمة الضئيلة لراتبها هى وزملائها؟ رُغم أنه لم يكن سيدفع شيئًا من أموال الجمعية! على الأقل يكسب ثقة الموظفين، ويعوّضهم عن ضعف رواتبهم، كما ينال احترام الهيئة الأجنبية والممولين حينما يشهدون كيف يقدر ويعظم شأن فريقه!.
فضَحِكَتْ عاليًا وهى تردد المَثل الذى ذكرته لها يومًا، والذى يعنى أن البعض يكرهون الخير ويشوّهونه إذا جاء لغيرهم، ولم يكن لهم فيه نصيب! قاطعتُها بهدوء وقلتُ: أو لعله اتفق مع الخواجة على اقتسام قيمة الرواتب الحقيقية! فامتعضت ببعض الانزعاج، وقالت: لا، لا.. الخواجة لديه قيم! موقفه معى مجرد حرب لإثبات القوة والتفوق الأوروبى! وقد باعتنى جمعيتى.. فلماذا يشترينى هو وهيئته؟!.
راتب برنامج الإصلاح
ذَهبَتْ لتقبض راتبها الشهرى من الجمعية، فأخبرها الصرّاف أنها لن تقبض من خزينته، بل من خزينة محاسب برنامج الإصلاح، طبقًا لأوامر المدير العام، فشَعَرَتْ بالإحباط لتبديد أحلامها بالحصول على الراتبين، رُغم أن مجموعهما معًا لا يساوى نصف قيمة الراتب الذى يجب أن تقبضه بحسب سوق العمل!.
وسريعًا ما اجتاحها الإحساس بالغضب من الظلم الذى تفرضه إدارة هذه الجمعية وكيف لا يحبون الخير للناس؟ وبدأت تتساءل فى داخلها: كيف يرتضى المدير حرمان الموظفين من الراتب الشهرى مقابل أن برنامج الإصلاح سيدفع قيمة راتب العمل به كاملًا دون مقتطعات؟ يا ساتر يارب! هل كان المدير سيوقف راتبه من الجمعية لو سمح الممولون بمنحه راتب برنامج الإصلاح؟
وبمنتهى التعجب سألتها؛ كيف يكون هذا؟ وما هذا السلام العجيب الذى تقبلتْ به خبر حرمانها من راتبها الشهرى الموثق بدفاتر الجمعية؟ وبصوت حاد أخبرتها: يا بنتى هذه مخالفة واضحة، وجريمة! فما هى الإجراءات الإدارية التى تمت لهذا التحوُّل فى مسار راتبك أنتِ وزملائك؟ ولماذا لم تناقشى المدير فى الأمر؟
فأجابت ببعض العصبية: سألتُ زملائى، ولكنى لم أحصل على أى ردود! مستطردة بسخرية: بل البعض أخبرنى أن من حق المدير أن يدبر لى الراتب من المورد الذى يراه.. فصرخت فيها: تتحدثين عن راتب الجمعية أم راتب برنامج الإصلاح؟ أين الراتبان؟ واستطردتُ: الخواجة اتفق معكِ على راتب برنامج الإصلاح، واعتذر لكِ عن قيمته الضعيفة، أى أن هناك راتبًا آخر يعرف أنه موجود! لماذا لم تحصلى عليه؟
فأجابتنى بنفس عصبية صوتى: هذا ما قيل لى، فالصراف تحدَّث معى علانية بما يوحى بالثقة أن هذا ما تم مع الجميع، وأن هذا إجراء طبيعى! ثم أية إجراءات إدارية والجميع يردد مقولة الورق ورقنا والمستندات مستنداتنا؟ أمّا زملائى، فرفض مَنْ سألتهم.. الوقوف أمام المدير ومواجهته! فلم أرغب فى إحراجهم ووضعهم فى محك الاختبار؛ لأننى أعرف أن أصواتهم لا تكون عالية إلا فى الظل، فلم أحب اختبارهم ولا مطالبتهم بالالتزام بما أعلم أنه شبه مستحيل!
سرقة كحل العيون
تعجبتُ متسائلة: ياااه، لهذه الدرجة الإدارة مخيفة بجمعيتكم؟ فابتسَمَتْ قائلة: بالعكس تمامًا، بل كل منهم مَدرسة فى الصبر وهدوء الأعصاب والابتسام، وكلمة حاضر لتسكين الناس الذين يدخلون إليهم بشكواهم من ضعف الرواتب أو ظلم المسئولين الآخرين، أو أى شكوى أخرى.. فيخرجون من أمامهم ضاحكين وكحل عيونهم مسروق منهم، بإرادتهم! حتى يبدأ إلحاح الشكوى فى تنغيص نفوس الناس المتألمة مرّة ثانية، فيكررون الكرّة، إلى أن يزهقوا ويدركوا أنه مافيش فايدة من الطلب، فيستسلمون للواقع المفروض عليهم! بعضهم يدْعون لهؤلاء الناس بالهداية وبعضهم يملأ الحقد قلوبهم وينتظرون لحظة الانتقام! بينما تنتشى الإدارة ويسعد أفردها بذكائهم، حينما يصفهم البعض بأنهم لاعبو سياسة ماهرون!
قالت لى إن أسلوب الإدارة هذا هو الذى علم بعض زملائها أن تكون نظرتهم قصيرة المدى، ولا يفكرون إلا فيما تحت أقدامهم! فلم يعودوا يطالبون بتحسين الرواتب، بل انصب تركيزهم واهتمامهم على المكافآت التى من الغريب أن الإدارة تحرص على منحهم إياها.. بينما تحرمهم من زيادة الرواتب الطبيعية التى تحفظ كرامتهم!.
فعلقتُ قائلة: تقصدين الرشاوَى نظير ما يطلب منهم؟!.
وبنظرة صاحبتها تنهيدة طويلة، أجابت: زملائى يرونها تكملة لرواتبهم التى لا يحصلون عليها بما يُرضى الله، وربما زهقوا من كثرة المطالبة بحقوقهم، فصاروا يخجلون من إلحاحهم بلا طائل، ولذلك قرروا الحصول عليها بهذه الطريقة التى اتضح أنها ترضى الإدارة!.
فقلتُ لها: الإدارة بأسلوب تربية الكلاب! فانزعجتْ من الوصف، وتعجبتُ أنا متسائلة: ماذا؟ إنها نظريتك! فأجابت وإحساسى يخبرنى أنها مشغولة فى أمور أخرى، وقالتْ: الناس غلابة! إمّا بضعفهم أو باستسلامهم! وليسامح الله من يستغل الحالتين لتحقيق أهدافه! الويل لمن تأتى منه العثرات!.
القتل بدم بارد
لم أنسَ الصورة التى رسمتها كلمات صديقتى عن الاستبعاد والتجاهل الذى يتم معاملتها به هى والقلة الأمينة فى تلك الجمعية، ومع هذا ينام المسئولون فيها بضمير راضٍ رُغم النفوس التى يقتلونها معنويّا بدم بارد!؛ حيث يقيّمون الموظفين بناءً على درجة الاستفادة الشخصية منهم وليس بناءً على عملهم واستفادة الجمعية منهم! لا توجد معايير لأى شىء، فكل الأمور يتم تحديدها بحسب معاييرهم الشخصية والمزاجية، بل وبحسب النوع أيضًا!.
وبعيدًا عن مواصفات النساء اللاتى يحظين بالرواتب الأكبر والمكافآت الأكثر، ولكنهم بشكل عام يميزون الرجال مَهما كانت طبيعة عملهم وتعليمهم، بحجة أنهم يفتحون بيوتًا!.
الغريب- تستطرد بانفعال- أن 90 % من المنتفعين بهذه الجمعية نساء، بينما معظم قادة البرامج رجال.. و75 % من الموظفين نساء، نادرًا ما ترتقى إحداهن لمنصب إدارى! ولهذا لم يُفعّلوا دور صديقتى يومًا كمديرة لقطاع التواصل؛ لأنها لا تتمتع بالمواصفات المطلوبة للتعامل الإدارى معهم!.
••
استمعتُ إلى غضبها، واستوعبتُ انفعالها الذى خرج عفويّا، ثم قلتُ: لى ملاحظتان؛ أولاهما أن انفعالك حسّاس وخالٍ من الكراهية والغضب، والثانى تصحيح معلومة: قلتِ إن رجال إدارة جمعيتك ينامون بضمير راضٍ... وأنا أعتقد أنهم لا ينامون، ولكنهم مضطرون للاستمرار والتجاوب مع المعطيات اليومية بمظهر قوى لئلا ينكسرون.. أمّا ضميرهم فتم تخديره منذ زمان طويل.. منذ قالوا للناس «خلى ربنا ينفعكم»!.
اعتدتُ سماع رواياتها عن فساد جمعيتها، ولكن أغرب جملة ظلت تتردد فى عقلى، هى ما ذكرته عن إحساس الإدارة بالسعادة المطلقة حينما يقع أحد الموظفين فى أى جريمة فساد؛ فهكذا يكون جاهزًا ومؤهلًا لاستخدامه فى جرائمهم وشرورهم، أو يتم تهديده بفضح جريمته!.