الأحد 19 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

إحسان عبد القدوس "السينمائى"

إحسان عبد القدوس "السينمائى"
إحسان عبد القدوس "السينمائى"




محمد سيد عبد الرحيم


ريشة الفنان: زهدى


 
نستطيع أن نجزم بكل ثقة بأن الكاتب إحسان عبد القدوس هو أقرب الكتاب إلى قلب السينما والسينمائيين المصريين وبالتالي العرب. وذلك بسبب هذا الكم الهائل من الروايات التي تم تحويلها إلى أفلام سينمائية بداية من فيلم "أين عمري" بعام 1956 وحتى "الراقصة والسياسي" بعام 1990 متخطيا بذلك كل الأدباء الكبار  وبفارق كبير عن نجيب محفوظ وإسماعيل ولى الدين وتوفيق الحكيم ويوسف إدريس.
فى هذه السنوات – 36 عاما فقط -، استلهمت واقتبست السينما ما يقرب من 50 عملا من أعمال إحسان عبد القدوس التى اتسم أغلبها بالاهتمام الشديد بالمرأة ومشكلاتها وأزماتها فى المجتمع خاصة المجتمع المصرى وعلى رأس هذه المشكلات مشكلة التحرر من أسر عبودية الرجل. هذه العبودية التى تتخذ الكثير من الأشكال لا شكلا واحدا فقط.
ولد الكاتب الكبير إحسان عبد القدوس فى الأول من يناير عام 1919 وتوفى فى 11 يناير عام 1990. ووالده هو الكاتب والممثل محمد عبد القدوس ووالدته هى الكاتبة والممثلة فاطمة اليوسف والتى أسست مؤسسة روز اليوسف التى أصدرت العديد من الإصدارات أهمها مجلة روز اليوسف وصباح الخير.
ورغم أن كلا أبويه ينتمى إلى الفن إلا أن انشغالهما بالفن هو نفسه الذى أدى إلى هجر وترك الابن منذ أن كان طفلا فى حضن عائلة أبيه وخاصة جده ومن بعده عمته حيث كان جده أزهريا صميما مما جعله يتأرجح دائما ما بين المحافظة من جهة عائلة الأب وخاصة الجد والتحرر فى التفكير من جهة الأم.
وهى نفسها نفس الإشكالية التى نجدها فى أغلب رواياته وبالتالى فى أغلب الأفلام التى اقتبست عن رواياته حيث نرى دائما المرأة وهى تسعى إلى التحرر من أسر الرجل الذى يريد دائما أن يكبت حريتها فيجعلها تابعا له وتتمثل هذه السلطة الذكورية فى عدة أشكال لا تنحصر فى الرجل بمعناه المباشر فقط بل نجدها فى الأب والأخ والزوج وحتى فى المؤسسات – بمعناها الفكرى - التى دشنتها منذ القدم عقليات ذكورية كالدولة والتعليم والزواج وبالتأكيد المجتمع. بل أن هذه العقلية الذكورية كثيرا ما تتمثل فى أشكال متحايلة كشكل المرأة نفسها فكثيرا ما تكون الأم أو أخت الزوج أو الصديقة هى نفسها التى تحاول بشدة وعنف أن تجعل المرأة تمتثل للرجل بحجة الأعراف والتقاليد والمجتمع وهى نفسها القيم التى دشنها الذكر والتى يراها المجتمع بأعين ذكورية بحتة لا تمت إلى الطبيعة بشيء. فالطبيعة لم تقل أبدا أن النساء درجة ثانية بعد الرجل أو أنهم يجب أن يكون أتباعا للرجل حيث يسبقهم الرجل بخطوة على الأقل دائما. بل إن الطبيعة لم توجد أى اختلاف أو تمييز للرجل على حساب المرأة لا جسمانيا أو فكريا.
بين الجد المحافظ والأم الحرة
منذ البداية عانى الحفيد إحسان عبد القدوس من محافظة وتزمت الجد مثلما عانى الأب قبله. فالأب محمد عبد القدوس كان يحب التمثيل وكتابة المونولوجات والغناء منذ الصغر وفى نفس الوقت كان يعمل مهندسا. وحينما أراد أن يتفرغ للفن ليحقق أحلامه بأن يكون فنانا كبيرا، حاول أبيه أن يمنعه عن ذلك حيث كان يرى أن من المستحيل أن يترك ابنه لينساق فى الطريق الذى يبتعد عن الاحترام والدين مثلما كان يرى المجتمع وقتها. فسعى الأب إلى نقل الابن من عمله من القاهرة – التى كانت وما زالت مركزا للفن فى مصر – إلى الأقصر إلا أن الثائر محمد عبد القدوس تمرد على أبيه فقرر أن يستقيل تماما من الوظيفة ليتفرغ لما يحبه ويعشقه وهو الفن. بالتأكيد لم يكن الأمر سهلا على الابن أو الأب ولكن الابن استطاع أن يأخذ موقفا مضادا ليفعل ما يريد. بذرة الثورة والتمرد والتحرر تلك التى نجدها فى الأب انتقلت إلى جينات الابن إحسان عبد القدوس الذى كان كاتبا ثائرا وتمردا ومتحررا طوال عمره حتى يوم مماته.
وبسبب هذا الخلاف الكبير بين أفراد العائلة، عانى الطفل والشاب إحسان عبد القدوس ممن يريدونه أن يكون مثلهم أو على الأقل مثلما كانوا يريدون أن يكونوا؛ حيث كان يريده أبوه أن يكون ممثلا وملحنا وأديبا بينما كانت أمه تريده أن يكون صحفيا وسياسيا. وبعد سنوات وبعد تجريب الكثير من الطرق كالعزف على الكمان وكتابة الشعر ودراسة الحقوق، استقر أخيرا على الكتابة؛ الكتابة الصحفية والكتابة الأدبية. والحقيقة التى لا يمكن إنكارها هى أن إحسان عبد القدوس استطاع أن يكون كاتبا صحفيا وأدبيا متميزا حيث ينتظر القراء دائما نشر مقالته أو رواياته الجديدة وهو أمر نادر الحدوث فكثيرا ما نجد صحفيين جيدين ولكنهم لا يكونوا أدباء جيدين والعكس بالعكس. وهو ما جعل اسم إحسان عبد القدوس يتخذ مكانا متميزا فى تاريخ الأدب العربى الحديث وفى نفس الوقت تاريخ الصحافة العربية - وهو تاريخ قصير إلى حد كبير - حيث يمكن بالفعل قراءة مقالاته الصحفية حتى اليوم والتمتع بأسلوبها السلس وأفكارها المتميزة. فمقالاته السياسية كمثال يمكنها أن تنافس أعماله الروائية فى جمال الأسلوب وسلاسة توصيل الأفكار وجرأتها.
وقد عانى إحسان بعد القدوس طوال حياته المهنية بسبب تميزه وتحرره هذا حيث سجن وتعرض للمساءلة القانونية  ومحاولة الاغتيال والاعتداء خاصة أنه كان ينتقد السلطة إذا كانت ممثلة فى الملك فاروق وخاصة فى قضية الأسلحة الفاسدة فى حرب 1948 والتى كانت السبب الرئيسى فى هزيمة العرب أمام الاحتلال الإسرائيلى وبالتالى وجود دولة إسرائيل حتى الآن ومقتل الكثير من أفراد الجيش المصرى والمتطوعين فى صفوفه الذين كانوا يريدون تحرير فلسطين من العصابات الصهيونية وأيضا نقده للرئيس الراحل جمال عبد الناصر وسلطته المطلقة التى أدت إلى هزيمة أو نكسة 1967 وبالتأكيد نقده للرئيس الراحل أنور السادات ومحاولته عبر تغيير الدستور أن يكون رئيسا لمصر إلى الأبد. بل إن إحسان كتب الكثير من المقالات منتقدا الكثير من الآفات السياسية منذ الملكية وحتى يوم وفاته مما جعل حياته دائما فى خطر من قبل أفراد أو مؤسسات أو جماعات سياسية.
وهم التحرر
الأفلام التى اقتبست عن روايات إحسان عبد القدوس بالتأكيد ليست على نفس المستوى. بل فيها ما هو متدنى المستوى مثل "غابة من السيقان" 1974 اخراج حسام الدين مصطفى و"يا عزيزى كلنا لصوص" 1989 اخراج أحمد يحيى ومنها متوسط المستوى وهو الأغلب والأعم مثل "النظارة السوداء" 1963 اخراج حسام الدين مصطفى و"العذراء والشعر الأبيض" 1983 اخراج حسين كمال ومنها مرتفع المستوى وأغلبها الأفلام الأولى التى اقتبست عن رواياته مثل "أين عمري" 1956 اخراج أحمد ضياء الدين و"لا أنام" 1967 اخراج صلاح أبو سيف. ومستوى الأفلام لا يرجع بالتأكيد إلى الروايات نفسها ولكن يرجع إلى صناع العمل السينمائى نفسه. فمن المعروف أن الفيلم هو عمل فنى منفصل تماما عن الرواية حيث أن المسؤول الأول والأخير عن الرواية هو الكاتب بينما الفيلم يتحمل مسؤوليته العديد من الأفراد الذين صنعوا الفيلم بداية من كاتب السيناريو والحوار مرورا بالمخرج وحتى منتج الفيلم.
بالتأكيد، روايات وقصص إحسان عبد القدوس وقت صدورها كانت تعتبر جريئة أشد الجرأة ومتحررة أشد التحرر ولكنها اليوم تعتبر محافظة إلى حد كبير وذلك لأن كتاباته بالفعل حمالة للوجهين وهو ما تبين مع مرور الزمن وتطور المجتمع والأفكار. فالمعضلة التى كانت تؤرقه منذ الصغر بين تحرر الأم التى كانت تعمل ممثلة ولديها مجلة وصالون ثقافى حيث تجالس الرجال الأدباء والفنانين وتناقشهم فى الفن والثقافة والصحافة مقابل جده وعمته وعائلة أبيه عامة المحافظة التى لم تكن نساءها تخرج من البيت إلا بإذن الجد وبمصاحبة أحد الرجال. هذا التناقض الذى شهده منذ الصغر هو الذى جعل قضية التحرر فى عقله مشوشة إلى حد كبير وهو نفسه الذى حرضه على التفكير فى قضية التحرر لتكون فى رواياته وأفلامه هى شغله الشاغل الذى يناقشه دائما حتى فى الأفلام التى كانت تدور فى أجواء سياسية أو وطنية لا فقط الأفلام التى كانت تدور فى أجواء رومانسية واجتماعية صرفة.
فمنذ أول فيلم اقتبس عن رواياته وهو فيلم "أين عمري"، يتجلى هذا التناقض وهذه الإشكالية بين الفتاة علية التى لعبت دورها الممثلة ماجدة والتى تطمح دائما فى التحرر من أسر الأم فتبتهج وتفتح زراعيها لهذا الزوج العجوز الذى يكدر عليها حياتها بعد الزواج. ففى أحد المشاهد وبعد أن تخبرها أمها والتى لعبت دورها الممثلة أمينة رزق أن عزيز بيه والذى لعب دوره زكى رستم – فى واحد من أفضل أدواره فى السينما – أنه يريد أن يتزوجها تبتهج علية أقصى الابتهاج وتقول " خلاص مفيش صحيان بدري.. مفيش مدرسة.. ولا مذاكرة ولا فيونكات.. من هنا ورايح فساتين طويلة وجذم بكعب عالي." فالفتاة الشابة التى تبلغ من العمر سبعة عشر عاما لا تفكر سوى فى هذه الأشياء. هذه هى الحرية بالنسبة لها.
وحينما تتخلص علية من أسر هذا الزوج العجوز الذى كان يضربها بالكرباج وكأنها حيوان يملكه، تنطلق علية بحرية لتعيش ما فاتها وما فقدته من شباب وحياة. ولكن هذه الحرية تواجه تهورا من شاب آخر لا يفرق بين حرية المرأة وانحلالها فيحاول اغتصابها. وهنا تتجلى المعادلة الأثيرة لدى إحسان عبد القدوس وهى امرأة تسعى للتحرر يقابلها مجتمع يقف إزاء محاولتها للتحرر مما يؤدى إلى تحرر غير مسؤول والذى يحتاج إلى تقويم من قبل رجل لتكون النهاية عبر فكرة تحرر المرأة المسؤول أو دعونا نقول المشروط.
منذ البداية، تحذر الأفلام المقتبسة عن روايات إحسان عبد القدوس من فكرة التحرر التى لا يفهمها المجتمع المتخلف فيظنها انحلالا. وهو نفسه ما نجده أيضا فى فيلم "أنا حرة" حيث البطلة تتوق دائما للحرية من الصغر فتطرق سبلها حتى تهتدى أخيرا أن التحرر المطلق ليس هو السبيل الصحيح وأن عليها أن تتخذ لنفسها هدفا سياسيا حتى تكون حريتها مكتملة على اعتبار أن الحرية لا تكون إلا حرية مسؤولة وفقها للأفكار التى روجت لها الفلسفة الوجودية فى هذه الفترة وخاصة الفيلسوفة سيمون دى بوفوار وعلى اعتبار أن حرية المرأة هى حرية الوطن حيث يرمز الفيلم إلى أمينة بطلة فيلم "أنا حرة" والتى قامت بدورها الممثلة لبنى عبد العزيز بالوطن الذى كان يتحرر من الاستعمار الانجليزى وقتها.
ولكن إذا نظرنا إلى هذه الأفلام نظرة جديدة متفحصة نجد أن خطاب إحسان عبد القدوس فيها لم يكن متحررا بالشكل الكافي. بل سنجد أنه كان لا يزال يدور فى فلك الذكورية إلى حد كبير. هذا لا ينفى بالتأكيد أن صوته كان صوتا تقدميا إلى حد كبير فى هذه الفترة. ولكن سنجد أن المرأة دائما وفى كل الأفلام التى اقتبست عن أعماله الأدبية تعيش فى ظل الرجل حتى بعد أن تتحرر أو دعونا نقول حتى بعد وهم التحرر من الذكر. فالحقيقة أن الذكر فى أفلام إحسان عبد القدوس هو المثل الأعلى والمخلص. نستطيع أن نجد ذلك فى أفلام "أين عمري" و"أنا حرة" السابقة الذكر والتى يعتبرها النقاد من أكثر الأفلام التى تناولت تحرر المرأة فى القرن العشرين فى مرحلة هامة من تاريخ مصر وتاريخ تحرر المرأة بشكل عام حيث كان صراع النساء مع المجتمع والأعراف لأخذ حقوقهن وعلى رأسها حق التصويت والترشح فى الانتخابات.
ولكن هذه الأفلام تؤكد بدورها دور الرجل القوى فى حياة المرأة وأنها لا يمكن أبدا الاستغناء عنه. بل أن هذه الأفلام تكرس لفكرة أن الرجل هو المثل الأعلى الذى يجب على المرأة أن تحتذى به. وبهذا فأن التحرر هو تحرر مشروط لا تحرر مسؤول مثلما أدعى النقاد الذين تناولوا الأفلام المأخوذة عن أعمال إحسان عبد القدوس.
فالطبيب خالد الذى لعب دوره الممثل يحيى شاهين هو الذى يقوم أفكار علية فى فيلم "أين عمري" وهو الذى يغيرها من حالة التحرر المطلق إلى الحرية المسؤولة وهو نفسه ما يفعله الصحفى عباس الذى لعب دوره شكرى سرحان فى فيلم "أنا حرة" حيث أنها تعيش فى بيته وفى كنفه محاولة أن تكون مثله عبر مساعدته فى مهامه السياسية والفكرية والوطنية.
ربما تكون هذه النماذج نماذج تحررية وتقدمية وقتها أى فى الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين ولكنها وبالتأكيد لا يمكن أبدا أن تكون هى النماذج التى نحتاجها الآن. وذلك لأن المرأة لا تحتاج أبدا أن تكون تابعا لرجل – أى كان هذا الرجل – ودعونا نقول أن مثال والدة إحسان عبد القدوس نفسها هو المثال المثالى الذى كان إحسان يهرب منه دائما. ففاطمة اليوسف نموذج يحتذى به حتى الآن من ناحية قوة الشخصية والعمل والانجاز والأهم الاستقلالية والندية مع الرجال فى الأوساط المختلفة والمتباينة التى كانت تعيش وتعمل فيها. فالحقيقة الساطعة كالشمس هى أن فاطمة او روز اليوسف كانت أكثر حرية من كل شخصيات أفلام إحسان عبد القدوس.