السبت 18 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

«ما زلت شغوفة بالمسلسلات ولا أثنى صفحات الكتب»

«ما زلت شغوفة بالمسلسلات ولا أثنى صفحات الكتب»
«ما زلت شغوفة بالمسلسلات ولا أثنى صفحات الكتب»


فى ذلك البيت الكبير المكون من طابقين وملحق خارجى خاص بالطيور والفرن الفلاحى وفى الخارج جنينة بديعة بها برج الحمام، فى هذا العالم الخاص جدًا عاشت جدتى وجدى، وعشنا نحن أجمل ما فى عالميهما.. وعندما أقول نحن أقصد ذلك العدد الكبير من الأبناء والبنات والأحفاد. نملأ جميعًا البيت قادمين من القاهرة فى عطلة الصيف، حيث يبدأ الاستعداد لقدومنا بفتح الغرف المغلقة وتجهز للقادمين.

 فرحة قدوم البنات -ظلا يطلقان على أمى وخالاتى البنات- وأولادهن تملأ أركان البيت، وسبق هذا القدوم استعدادات وتجهيزات تخص جدتى ويلبيها جدى والمساعدات: «عايزين نخبز قبل ما البنات ييجوا، عايزين من السوق بط ووز وفراخ علشان البنات جايين عايزين نجيب زبدة، عايزين دشيشة علشان تظغيط الزفر» وتظل جدتى تطلب طلبات هى فى الأساس موجودة، ولكنها طقوس جدتى فى الاستعداد لاستقبال بناتها الغائبات. و حقًا الآن أندهش من قدرتها على إطعام هذا العدد من الكبار والصغار، خاصة أنها لم تكن تسمح لأحد أن يقترب من مطبخها، ولن أنسى تلك الرائحة الشهية القادمة إلينا من مطبخها الكبير.
وقد ورثت وشقيقاتى عنها «النفس فى الطبيخ» أو حب الطبخ والاهتمام بإتقانه. جدتى لا تتوقف عن الحركة وكانت مساعداتها يفهمن إشاراتها، ولا نسمع لها صوتًا إلا بعد أن تصلى العصر، وتجلس على الكنبة فى صالة البيت، وتشير لذلك المستقر على الرف العالى فى أبرز وأهم مكان فى الصالة، ذلك المغطى بمنتهى الاحترام بغطاء ملون بألوان زاهية تليق بمكانته إنه «الراديو»، وتنادى نداءها المعتاد: «تعالى افتحى الراديو علشان المسلسل» ويكون ردى المكرر: « يا نينة لسه بدرى الساعة لسة تلاتة ونص والمسلسل بييجى خمسة  وربع» ويتوقف النقاش عندما ينبعث صوت الراديو، تطمئن وتفرد جسدها على الكنبة، وتنام بعمق حتى يتصور من يراها أنها لن تستيقظ إلا فى اليوم التالى. ولكنها تستيقظ مع أول جملة موسيقية تعلن أن مسلسل الخامسة والربع فى البرنامج العام سوف يبدأ. تستيقظ  وتعتدل فى جلستها لتتابع المسلسل.
 «سينما كفر صقر شرقية»
 وهكذا يا جدتى ارتبطت بالمسلسلات وأصابنى شغف انتظار المسلسل الذى أتابعه يوميًا حتى الآن، فقد ورثت عنك عشق الحكايات. وما زلت ومع كل مرة أذهب فيها للسينما أتذكر اشتباكنا  الأسبوعى، هذا الاشتباك الذى هو عنوان لزمن مختلف.
 زمن كان فيه سينما فى بلدتنا «كفر صقر بمحافظة الشرقية» نعم كان بها سينما لها نفس المواصفات المعمارية  لأية سينما. وشاهدت فيها أجمل الأفلام. وتستقبل المشاهدين على مدار الأسبوع وكانت التذكرة فى البالكون بثلاثة قروش، وكان يتم الإعلان عن الفيلم بمرور سيارة بميكروفون: «الليلة وكل ليلة الفيلم العالمى الفيلم الذى كسر الدنيا فيلم «الوسادة الخالية» وأسمع اسم عبدالحليم حافظ وأكاد أجن وبدون تفكير أذهب إليها وصوتى كله رجاء لا أعرف تفسيرًا لماذا لا أذهب لأمى ـ : «نينة عايزة تلاتة صاغ علشان أروح السينما» فيكون ردها الأول «بلاش كلام فارغ عيلة إيه دى اللى عايزة تروح السيما» وينتهى الاشتباك بأن تضع يدها فى صدرها وتخرج حافظة نقودها من مخبئها الحميم وتمنحنى خمسة قروش.
 آه يا جدتى ما زالت رائحة البن تسحرنى، وأثق أن العالم أجمل مع فنجان القهوة الصباحى «بن غامق محوج» تلك الرائحة الساحرة التى كنت أشمها وأنت تحمصين حبوب القهوة، وأنت تطحنينها فى مطحنة يدوية وبهدوئك المعتاد تضيفين الحبهان وجوز الطيب بمقادير لم تخطئيها أبدًا، وعلى «السبرتاية» تصنعين لك ولجدى قهوتكما، وتسرى الرائحة الساحرة وأقترب منك بأدب مبالغ فيه: «عايزة شوية قهوة يا نينة» فيرتفع صوتك قليلًا عن المعتاد خاصة فى وجود جدى: «عيب مفيش بنت بنوت تشرب قهوة» ولم أعترف لك أننى كنت أشرب القهوة سرًا، أنتهز فرصة انشغالك وآخذ القهوة والبن والسبرتاية وأختفى.
 كنت أختبئ فى حجرة المكتبة فى الطابق الثانى من البيت الكبير، أشرب القهوة سرًا، وأقترب بحذر من الكتب فى مكتبة جدى أتحسس أغلفة الكتب، وأقرأ العناوين التى بدت أحيانًا كالطلاسم المغلقة المستحيل فكها. حجرة ليس بها سوى خزانات بأبواب من الزجاج مقفلة على عالم أكبر من عالمنا هو عالم جدى لأمى «السيد رستم»، عالم فتحه جدى  لشباب العائلة، وللكثيرين من شباب بلدتنا، عالم كان يفتح أبوابه فى أمسيات الصيف حيث يلتف الشباب حول جدى فى «القاعة البحرية»، يعيدون الكتب التى استعاروها من المكتبة، ويأخذون غيرها، عالم له مفردات وبشر وأسماء كانوا يرددونها وأنا أسمعها لأول مرة  «الوجودية / الشيوعية/ المكارثية / العقاد/ طه حسين/ سارتر/ نجيب محفوظ / إحسان عبدالقدوس / حركة التحرر/ أنديرا غاندى/ وروز اليوسف / ومى زيادة».
 وفى مكتبة جدى تعرفت وعشقت أول الحروف والكلمات خارج الكتب المدرسية، وكان أول كتاب سحبته من فوق رف من رفوف المكتبة «قصة الفلسفة» ابتسم جدى وأنا الآن أبتسم لأننى لم أفهم ولا كلمة واحدة منه فقد كنت طفلة وطلب منى أن آخذ ما أشاء من الكتب بشرط واحد هو ألا أقوم بثنى طرف الصفحة التى أتوقف عندها لحين عودتى للقراءة، وأعطانى تذكرة قطار مستعملة لأضعها حيث أتوقف كانت القطارات فى ذلك الوقت كما نراها فى أفلام الأبيض والأسود وحتى الآن وبعد كل هذا العمر ما زلت أحترم شرط جدى مع كتبى ولا أثنى أطراف صفحاتها. وكنتما يا جدى وجدتى فى حياتى جمالاً أحاط بى، وكوّن وجدانى ووعيى، كم أنا ممتنة للصدفة الرائعة التى جمعتنا معًا.