الخميس 2 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

مُشاهِد غامض فى قاعة المسرح

مُشاهِد غامض فى قاعة المسرح
مُشاهِد غامض فى قاعة المسرح


نسير فى طريقنا مع جمهورنا المرواغ وحروبنا الصِّفرية، فقد توصلنا الأسبوع الماضى إلى أن الحرب الصِّفرية ليست غاية فى حد ذاتها، بل هى وسيلة.
تهدف هذه الوسيلة إلى العبور بالجمهور المسيطر عليه سيطرة كاملة من العالم الافتراضى؛ حيث وسائل السوشيال ميديا إلى العالم الواقعى أو الشارع ثم الاصطدام على الأرض بالقوة التى يوجه لها هذا الجمهور المشحون بغضب مُصَنَّع،هنا يتحقق الغرض الرئيس لمُخططى الحرب الصفرية ومَن يديرونها.


طالما ظل أحد خصمَىّ الحرب الصفرية فى حالة رد الفعل، وهو الخطأ القاتل والحاسم فى هذه الحرب؛ فإن لحظة عبور الجمهور من الافتراضى إلى الواقعى تعتبر حتمية.
نضع فرضية مغايرة ماذا لو تحرَّكَ الخصم المصاب بحالة رد الفعل وقرر  القيام بالفعل؟ تطرح الفرضية سؤالًا آخر: هل يستطيع الخصم المصاب إنقاذ نفسه من حتمية اللحظة وإبقاء الجمهور الغاضب فى العالم الافتراضى قبل الذهاب إلى العالم الواقعى حيث الصدام؟
يجب أولًا فهم معنى الغضب الذى تم تلغيم الجمهور به، فإذا سألت الجمهور نفسه عن سبب هذا الغضب وطبيعته فلن تجد إجابة؛ لأن الحقيقة هى أن الجمهور لا يعرف لماذا هو غاضب؟ فهذا السؤال يُمكن توجيهه إلى إنسان طبيعى فيشرح لك أسباب غضبه أم كتلة الجمهور فهى تغضب دون أن تعرف سبب غضبها.
تمتلك الحرب الصفرية هذه القدرة، فهى تستطيع بمتوالية من المخططات على السوشيال ميديا وعن طريق الأداة التى تروّج لهذه المخططات السيطرة على الجمهور ووضعه فى حالة الغضب دون أن يسأل الجمهور نفسه، ولن يسأل، لماذا أنا غضبان؟ لأن هذه هى طبيعة الجمهور.
محاولة فهم حالة الغضب المسيطرة على الجمهور والمسيطر عليه ممن يدير الحرب الصفرية تدفعنا إلى مثال..
نتصور قاعة مسرح ممتلئة عن آخرها بالجمهور ولا يوجد مقعد خالٍ، وهذا الجمهور مستغرَق بشدة فى مشاهدة عرض مسرحى رصين يقدمه مجموعة من الممثلين على درجة عالية من الإتقان والبراعة فى الأداء المسرحى، وفى ذروة دراما المسرحية يتقدم بطل العرض إلى وسط خشبة المسرح ويؤدى المشهد الرئيس فى النص المسرحى بجُمل فخمة ولغة جزلة وأداء مؤثر، ما يُدخِل الجمهور فى حالة من الاستغراق والاندماج الكامل مع العرض والبطل.
وسط هذه الحالة من الأندماج الكامل بين الجمهور والعرض المسرحى والبطل المؤدى يقوم أحد مشاهدى العرض من الجمهور من على مقعده واقفًا ثم يَسُبُّ بطلَ العرض والمسرحية ولا يكتفى بهذا بل يسخر من الجمهور الذى يتابع الأحداث الدرامية للمسرحية ويطالبهم بالانصراف وعدم تكملة مشاهدة العرض ويصر على أفعاله الشاذة والغريبة.
عند هذه اللحظة سيتجمد كل شىء من بطل العرض إلى إدارة المسرح التى وجدت نفسها تواجه حالة طارئة، والأهم الجمهور الذى أصيب بحالة دهشة من فعل المشاهد، وفى ثوانٍ قليلة تتحول دهشة الجمهور إلى غضب شديد.
تسأل الجمهور عن سبب غضبه لن تجد إجابة وافية أو محددة.. فلن يعرف الجمهور هل غضبه ناتج عن قلة ذوق وهمجية المشاهد؟ أم غضبه نتيجة كشف المشاهد لحقيقة أن ما يتابعه الجمهور من أحداث المسرحية هى أحداث لا تمت للواقع بصِلة؟ أم الغضب سببه إخراج الجمهور من حالة الاستمتاع والاندماج مع العرض المسرحى والبطل؟
لن يعطينا الجمهور إجابة محددة، ليس لأنه يرفض التحديد، بل لأنه لا يعرف لماذا هو غاضب؟ فهو فى حالة غضب، وهذه الحالة تحول الجمهور إلى شرائح فمنهم من سيشتبك مع المشاهد الهمجى وبعضهم سيصب غضبه على إدارة المسرح محملين الإدارة كل الأسباب من السماح بدخول هذا المشاهد إلى أن العرض المسرحى ردىء وأبطاله لا يجيدون التمثيل، وذلك ما دفع المشاهد للقيام بهذا الفعل.
بعد قليل سيذوب المُشاهد سبب حالة الغضب فى وسط الجمهور؛ لأنه واحد من مكونات هذا الجمهور، ويتركز الغضب بالكامل تجاه قاعة العرض ومَن يديرها وأبطال المسرحية محملين القاعة والإدارة والأبطال وِزْرَ ما حدث، يتطور غضب الجمهور حتى يصل إلى حالة من الشغب محطمًا كل شىء حوله منفسًا عن غضبه غير محدد السبب.
لن يسأل الجمهور نفسه عددًا من الأسئلة قبل أن يصل إلى ذروة الغضب ثم الشغب، ألم يدرك الجمهور أنه ذاهب لمشاهدة المسرحية طواعية دون إجبار من أحد، والدليل أن كل واحد من الجمهور قام بشراء تذكرة ليحضر العرض، ومن ضمن مشترى هذه التذاكر المشاهد سبب حالة الغضب؟ ما هى شروط العَقد الموقع بين الجمهور وإدارة المسرح وأبطال العرض ممثلًا فى التذكرة التى اشتراها الجمهور؟
 يقدم العَقد أو التذكرة التى دفع ثمنها الجمهور شروطًا تقول إن  الثمَن المدفوع يعطى للجمهور الحق فى مشاهدة عرض فنى راقٍ وتوفير قاعة عرض جيدة تسمح له بمتابعة المسرحية دون منغصات.. هل أخلت إدارة المسرح وأبطال العرض بهذه الشروط؟ بالتأكيد لا؛ لأن الجمهور كان فى حالة استمتاع واندماج كامل مع العرض حتى اللحظة التى قام فيها هذا المشاهد الغامض بفعلته.
تبقى أسئلة أخرى متعلقة بالمُشاهد الغامض سبب حالة الغضب، وهى أسئلة لم ولن يوجهها الجمهور لنفسه من نوعية لماذا قام المُشاهد بهذا الفعل الشاذ وخَرَّبَ العرض رُغم مجيئه بكامل إرادته لحضور العرض ومعرفته بقواعد وآداب المشاهَدة؟ هل هذا الشذوذ فى الفعل ناتج عن خلل نفسى يعانى منه هذا المشاهد فكان يجب على الجمهور الطلب من إدارة المسرح إخراجه من قاعة العرض لتكملة المشاهَدة بدلًا من الغضب والشغب؟ أم أن المُشاهِد غريب الأطوار ليس غريب الأطوار لكن يتعمد القيام بهذا الفعل لتخريب العرض لصالح- مثلًا- إحدى الفِرَق المنافسة؟
أمامنا هنا ثلاث حقائق؛ أولها أن الجمهور لن يوجّه هذه الأسئلة لنفسه، وثانيها أن المُشاهِد الغامض نجح فى تخريب العرض مؤقتًا، وثالثها أن إدارة المسرح أصيبت بحالة رد الفعل، وهو الخطأ القاتل والحاسم فى الحروب الصفرية، وتركت الأمر يتطور من حالة الغضب  إلى حالة الشغب.
بالنسبة للحقيقة الأولى والثانية  فتنتميان للماضى والماضى مختوم بختم الاستحالة لتغييره، أمّا الحقيقة الخاصة بإدارة المسرح فهى تنتمى للحاضر الذى يمكن تغييره ليؤثر فى مجريات المستقبل.
يعطى الحاضر فرصة لإدارة المسرح للخروج من حالة رد الفعل إلى الفعل للتعامل مع المُشاهد الغامض ثم السيطرة على الجمهور الغاضب قبل أن ينقلب الغضب إلى شغب.
إنها الفرصة نفسها التى تتيحها آليات الحرب الصفرية أمام أحد الخصوم للتحرك بفعل مدروس تجاه الجمهور الغاضب قبل لحظة خروج هذا الجمهور من العالم الافتراضى إلى العالم الواقعى ويُخرّب العرض الذى كان يستمتع به واندمج معه منذ قليل قبل ظهور المُشاهد الغامض.
 نضع أنفسنا فى مكان إدارة المسرح أو أحد طرفَى الصراع فى الحرب الصفرية الذى سيتحرك بفعل من أجل التعامل مع الجمهور الغاضب، إمّا أن تكون هذه الإدارة على خبرة ودارية فى التعامل مع هذا الموقف الطارئ الذى سببه المُشاهِد الغامض أو أنها عديمة الخبرة وستكتسب خبرة فورية من لحظة المواجهة.
فى كلتا الحالتين يكون الهدف الرئيس لإدارة المسرح أن يستمر أبطال العرض فى أداء أدوارهم المرسومة حسب النص ولا يتورطون فى حالة الإزعاج التى يسببها المُشاهد الغامض.
تؤدى هذه الصرامة فى الإصرار على  تقديم العرض إلى توجيه غضب شريحة ليست قليلة من الجمهور إلى هذا الدخيل الذى يحاول تخريب متعة المشاهَدة وليس إلى العرض وأبطاله.
يبقى القرار التالى لإدارة المسرح؛ هل يستمر العرض دون الالتفات للدخيل وتراهن على الجمهور بأنه سيتعامل مع المُشاهد المشاغب ويُخرجه من القاعة ليستمر العرض؟
كما أوضحنا فى أسابيع ماضية لا يجوز الرهان على الجمهور؛ لأنه لا يوجد جمهور تحت الطلب، بل نحن من يصنع الجمهور، ولذلك يجب على إدارة المسرح أن يكون قرارها التالى حاسمًا ومبتكرًا حتى تستعيد سيطرتها على  جمهورها  الذى انشغل بأفعال هذا المُشاهد الغامض.
نحاول فى مرّة مقبلة مشاركة إدارة المسرح بأن نطرح عليها هذه النوعية من القرارات الحاسمة والمبتكرة.