الخميس 2 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

هل يهدمون مدينة الفنون بالعجوزة؟

هل يهدمون مدينة الفنون بالعجوزة؟
هل يهدمون مدينة الفنون بالعجوزة؟


كتب: عز الدين نجيب


ها هى دعوة مريبة تسرى كالسم فى جسم الوطن، تستهدف القضاء على صرح فنى عظيم من عصر الستينيات، يقوم برسالة التنوير والإمتاع الراقى للجماهير، بالعروض المسرحية والاستعراضية والموسيقية والسيرك القومى والسينما والندوات الثقافية، إنها مدينة متكاملة للفنون تخدم محافظتى القاهرة والجيزة، ومن ورائهما جميع محافظات الجمهورية، باستقبالها عروض فرق الأقاليم وإقامة المسابقات للتنافس الإبداعى فيما بينها.


أتحدث عن مجمع المسارح والخدمات الثقافية ومسرح البالون والسيرك القومى بالعجوزة، الذى تتبنى إحدى نائبات البرلمان اليوم الدعوة لإخلائه من مكانه التاريخى ونقله إلى منطقة مطار إمبابة القديم، من أجل بيع الأرض المقام عليها- منذ عهد عبدالناصر- بعدة مليارات من الجنيهات، وكأنها التى ستحل جميع مشاكل مصر الاقتصادية، وهكذا يعيد التاريخ نفسه!.. ففى مثل هذا الشهر من عام 1990 انطلقت دعوة مشابهة لبيع مقتنيات متاحفنا من الفن العالمى بالمزاد العلنى بحجة تسديد ديون مصر الخارجية بعائدها، إلى هذا الحد بلغ الجهل بقيمة الإبداع الحضارى والقُوى الناعمة للتراث الثقافى، بل والجهل بمعنى الوطنية لدى بعض من يدّعون السعى لمصلحة الوطن، وها هو جيل جديد من النواب لم يتعلم الدرس بعد الهزيمة المتكررة لدعاة بيع المتاحف عام 1990 وسقوطهم المزرى فى نظر كل الوطنيين ومحبى الجمال.
غير أن ما يدعو للقلق هو أن آذان الحكومة- خاصة وزارة المالية- ترهف السمع لأصداء تلك الحملة وهى تتلمَّظ متلهفة على قبول الرأى العام للدعوة، حتى تبدأ تنفيذ ما عجزت عن تحقيقه عام 2017 لبيع عدة مواقع بالقاهرة منها منطقة مسرح البالون!.. إن كون الوزارة تكنوقراطية لا يعنى أن تكون بلا وعى سياسى،لكن الإقدام على مثل هذا المشروع فشل سياسى محقق، فبالرغم من أن مدينة العجوزة للفنون لا تقوم بعمل سياسى،فإن وجودها سياسى بامتياز، لأنها- من ناحية- حائط صد لوباء التطرف والإرهاب بما تبثه من وعى وفكر مستنير يعمل على تشكيل عقل ووجدان الشباب الذى لا يجد من يمتص غضبه وإحباطه بسبب الأوضاع الاجتماعية الخانقة، ومن ناحية أخرى هى واحة لاسترخاء أعصاب آلاف الأسر المحرومة من الحد الأدنى من الترفيه، فى خضم معاناتها اليومية مع شظف العيش، ناهيك عن احتضان المدينة للمواهب الفنية عبر عشرات الفرق المسرحية، وفرق الفنون الشعبية، وما يصحبها من غناء وموسيقى ورقص شعبى،تلك التى ترفع راية مصر فى كل المحافل الدولية التى تدعى إليها الفرق الفنية.
إن هذا المربَّع الذى يقع على الخط الفاصل بين محافظتى القاهرة والجيزة ويطل على النيل عند كوبرى الزمالك، يعد واحة ثقافية وترويحية متكاملة للفنون التعبيرية، تضم قطاع الفنون الاستعراضية والفرق القومية للفنون الشعبية والسيرك القومى ومسرح البالون ومسرح السامر ومسرح الغد وقاعة ومكتبة منف وإدارة السينما وإدارة المسابقات المسرحية والاستعراضية لفرق المحافظات، وهى واحة أو مدينة تشهد على رؤية الدولة فى الستينيات للثقافة باعتبارها ضرورة استراتيجية لبناء المواطن، تغذى وعيه وذائقته للفنون، مثلها مثل ضرورات الغذاء والصحة والتعليم، إلى جانب توفير عنصر الترفيه والمتعة بفنون السيرك وغيره كضرورة للترويح عن الإنسان.
إننى أناقش الأمر الآن بافتراض أن الحكومة استجابت لتلك الحملة، وأرجو ألا تفعل حتى ولو وفرت البديل فى المكان المذكور، ذلك لأن الموقع الحالى جزء لا يتجزأ من الهدف من وجود مدينة الفنون بالعجوزة كمعْلَم تاريخى وثقافى وحضارى لا يعوضه موقع آخر، فضلاً عن أننا نشك فى إقامته بعد هدمه لضخامة حجم التمويل فى المكان المقترح، خاصة أن خبرتنا الماضية تصدمنا بأمثلة تم فيها هدم معالم ثقافية بالغة الأهمية وظلت حتى الآن أنقاضًا خربة، مثل متحف الجزيرة، فى ساحة الأوبرا الذى يضم آلاف الأعمال الفنية العالمية، وبانورما القبة السماوية التى كانت منارة للعلم والمعرفة عن الكون من حولنا وعن المجرة من فوقنا، ومتحف تاريخ الإنسان «المسمى بمتحف الحضارة».. وهذه المعالم الثلاثة كان يضمها مبنى واحد هو «سراى النصر» على طرف الجزيرة بين فرعى النيل، وذهبت جميعًا بلا عودة، ومثلها قصر المسافرخانة بحى الجمالية الذى احترق فى ظروف غامضة أواخر التسعينيات، كأروع قصر إسلامى من القرن 19، وكان يضم مراسم الفنانين التشكيليين، وصرح وزير الثقافة فاروق حسنى آنذاك بأن لدى الوزارة جميع الخرائط والرسوم والتصميمات لمبنى القصر، وسوف يتم بناؤه من جديد على أساسها، كصورة طبق الأصل، وبالرغم من غرابة هذا التصريح عن أثر تاريخى لا يجوز استنساخه وإلا فقد صفته الأثرية، فإن مكانه لا يزال خرابة موحشة، وضاعت معه رسالته الحضارية كمركز إبداع للفنانين كانوا يواصلون من خلاله الدور الحضارى المصرى منذ فجر التاريخ، ولم يتم تعويضهم بمراسم فى مكان آخر حتى اليوم.
إذا كانت الدولة مقتنعة بدور الثقافة، وبأهمية مدينة الفنون بالعجوزة كجامعة تشبع احتياج الناس للفنون الرفيعة، وتعمل على حماية النشء من الانحراف نحو اتجاهات ضالة، وتُسَرِّى عن نفوس الأسر التى أرهقتها كروب الحياة، وتمثل مركز إشعاع ثقافيًا فى مرحلة تنطفئ فيها مراكز الإشعاع والتنوير والمتعة، فإن عليها أن تعمل بجميع السبل للحفاظ على هذه المدينة الفنية وتطويرها واستثمارها فى نفس موقعها العبقرى،لأنها جسر يربط بين الطبقات الاجتماعية المختلفة، فعلى يسارها حى إمبابة الشعبى كثيف السكان عديم الحظ من مراكز الثقافة والترفيه، وعلى يمينها حى العجوزة كنموذج لأسر الطبقة المتوسطة، وفى مقابلها حى الزمالك كحى أرستقراطى ودبلوماسى ومركز مهم لكليات الفنون وقاعات المعارض التشكيلية، ومن وراء هؤلاء جميعًا أحياء القاهرة بمختلف مستوياتها الطبقية بل وجميع المحافظات، ما يعطيها بحق صفة المشروع القومى.
إن تقدم الأمم يقاس بما تملكه من مؤسسات الثقافة والفنون والعلم وكل ما يبنى عقل ووعى وذوق الإنسان، ومصر كانت تزهو بما تملكه من هذه المنارات، فإذا لم تستطيعوا إضافة منارات جديدة، فعلى الأقل لا تهدموا ما ورثناه من منارات بُنيت فى زمن يعرف قدر الثقافة فى بناء الإنسان.