الخميس 9 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

شرحبيل أحمد فنان الأجيال

شرحبيل أحمد فنان الأجيال
شرحبيل أحمد فنان الأجيال


الكاتبة السودانية: مناجاة الطيب عوض الله


عندما رن هاتفى فى المساء خطر لى لحظة أن أتجاهله، فقد كنتُ شديدة الإرهاق بعد قضاء يوم طويل فى تجهيز بعض الإصدارات الجديدة.. ولكنْ هاتف خفى جعلنى أحمل التليفون وأنظر لشاشته فيظهر لى اسم الفنان شرحبيل أحمد، فأسرعت بفتح الخط،  و... أين أنت يا فنان طوّلت الغياب؟ فرد بصوته الهادى..
 حضرت اليوم من القاهرة وحا أحضر بُكره لمكتب النشر لأسلم عليكم. حقيقى شعرتُ بالارتياح بعد مكالمته تلك، فهو من الأشخاص الذين يأسرونك بأدبهم الجَمّ وتواضعهم.. وفى صباح اليوم التالى حضر فى موعده وهو يحمل إلينا هدايا أدخلت السرور إلى نفوسنا، وبالنسبة لى كانت تحمل رائحة وطن ثانٍ أحببته منذ الصغر كنت أتشوق لأخباره فسألته كيف تركت القاهرة وأهلها؟ كان جوابه صدمة بالنسبة لى عندما أخبرنى بأنه لم تُتَح له فرصة للتجوال وقد قضى أيامه ما بين المكوث فى منزل ابنته التى تقيم فى شقة بعيدة فى أحد التجمعات الجديدة وما بين عيادة الطبيب، ما أشعره بالمَلل، وجدت نفسى ألومه كيف يمكن أن يشعر أحد بالمَلل فى القاهرة يا أستاذ؟! فقال لى هذه الزيارة مختلفة عن سابقاتها، فقد كانت بغرض العلاج. تمنينا له الصحة والعافية، فقد قدّم ولايزال الكثيرَ فى مجالَى الفن التشكيلى والغناء رُغم البداية المتعثرة التى واجهته فى بدايته المبكرة بعد أن ظهرت فيه بوادر الموهبة الفطرية التى لم تعجب والده وحاول إبعاده عنها بكل السبل ولكنه كان كل يوم يزداد إصرارًا على ولوج تلك العوالم التى كانت شبه محرمة فى زمانه، وكان من يسير فى دربها يوصف بأفظع الصفات إلّا من القلة القليلة التى لا ترى مانعًا لممارسة ابنهم الفن إذا ما توافرت فيه الموهبة الحقة، ولكن والد شرحبيل لم يكن يرى ذلك وكان رده قاطعًا لا نقاش فيه، وقد امتد ذلك الرفض بأن حطم آلة كمان كان قد اشتراها وخبّاها داخل مخزن فى منزلهم، فوقعت فى يد والده الذى كان يعتقد بأنه بذلك قد قضى على رغبته فى الغناء، ولكنه فؤجى به يصاب بحالة من الإحباط ثم يترك المنزل فتقوم والدته التى لم تحتمل فكرة أن تفقد ابنها فتشفع له عند والده وتقنعه بأن يسمح له بالغناء، فقبل الأب على مضض، وكان قبولًا مشروطًا بأن يقدم فنّا رصينًا مُتزنًا مثل بعض الفنانين الذين عرف عنهم الالتزام والتهذيب، فقبل شرحبيل وهو يُدين لوالدته بذلك الجميل، فقد كانت ترى فيه ما لم يرَهُ والده، إذ إنها كانت شاعرة تصوغ الشِّعر كلمًا ونغمًا وسط عائلتها، وبذلك انطلق المارد الحبيس عن غمغمه وصار يرسم ويغنى فيطرب، وصار له جمهور من المعجبين؛ خصوصًا أنه قد اتجه نحو لون لم يسبقه عليه أحد غير الجيش، فكَوَّنَ فرقة لموسيقى الجاز غنّى على أنغامها واتخذ آلة الجيتار رفيقًا لدربه لم يفارقه حتى الآن، وقد تغنّى بلغات متعددة وجاب الكثير من دول العالم ومع ذلك كان موظفًا فى وزارة التربية والتعليم رسامًا بمجلة الصبيان التى كانت من أوائل مجلات الأطفال فى العالم العربى، واشتهر بشخصية نمطية بالمجلة اسمها عمك تنقو يقوم برسمها وتأليف أشعارها ذات الطابع الفكاهى.
فى تسعينيات القرن الماضى وإبان فترة إقامته بالقاهرة مع أسرته قاموا بتكوين فرقة غنائية كانوا يقدمون عروضًا بدار الأوبرا وجدت جماهيرية كبيرة فقضوا أيامًا جميلة لم يعكرها إلّا نزاعه القانونى مع الفنان محمد فؤاد الذى قام بأداء واحدة من أحب أغانيه لنفسه وهى أغنية الليل الهادى، ولم يستأذنه بل لم ينسبها إليه ذاكرًا بأنها من أغانى التراث النوبى علمًا بأن الأغنية من الفن الحديث قام بصياغتها شعرًا ولحنًا وغناءً ولم تكن غضبته فقط من أجل ذلك ولكن قال بأن الكثير من الشعوب يقومون بإدراج الغناء السودانى تحت مسمى تراث نوبى، وهذا مفهوم خاطئ عن فن الغناء السودانى. المهم انتهت القضية إلى لا شىء ومازال محمد فؤاد يرددها، وقد استمعت لها مؤخرًا فى مقطع فيديو متداول على الوسائط الاجتماعية فى أحد البرامج، كان يشاركه الغناء فيها الممثل أحمد السقا، وعندما سألته مقدمة البرنامج عنها، نَسَبَها للأستاذ شرحبيل. والصراحة كان أداؤهما رائعًا للأغنية، ما جعلنى أخبره بأمرها، فقال لى لقد استمعت إليها ولم يزد ولم يقف عند الأمر كثيرًا، فهو لا يتضايق إذا غنّى أحد أغنياته، فكثير من الفنانين الشباب يقومون بترديد أغانيه؛ خصوصًا أغنية الليل الهادى، التى تقول بعض كلماتها...
الليل الهادى ذكّرنى حبيبى الغائب من بدرى
خلانى وحيد نصيبى نحيب سُهدى وبُعدك جننى
متين يا ربى ألقاه ويسعد قلبى بلقياه
لو فاتنى يومين تبقى لى سنين
وحشتنى عيونك يا حبيبى وهمسك ولمسك يا طبيبى
أنت هناك وروحى معاك سُهدى وبُعدك جننى.