الأربعاء 1 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

يريفان.. لقاء الأحباب والثقافات

يريفان.. لقاء الأحباب والثقافات
يريفان.. لقاء الأحباب والثقافات


كما ذكرت من قبل وأكرر التذكير،  فإن مشربية الحكى فى حاجة دائمة إلى عاشق ومعشوق.وبالطبع تحتاج أيضًا حكايات عشق تجمع القلوب وتقرب المسافات. وتحول الحكى نفسه إلى متعة ومغامرة واكتشاف وبهجة.
ولا شك أن ما بين حيرة «نبتدى منين الحكاية» وحالة «قلبى مليان بحكايات» أجد نفسى أحيانًا عاجزًا عن التعبير،  إلا أننى وكعادتى فى صمتى أتأمل قلبى وحكاياتى وحيرتى وأيضًا صمتى. ثم أواصل من جديد مشاويرى.

أغلب مشاويرى فى يريفان العاصمة الأرمنية أقوم بها مشيًا. وبالتأكيد من مشى شاف أكثر وتأمل أكثر. شارع ماشتوتس الرئيسى فى يريفان يأخذنى إلى ماتيناداران. إنه متحف المعرفة والمخزون الثقافى الأرمنى والآلاف من المخطوطات النادرة بالأرمنية وبغيرها من اللغات. بالمناسبة ميسروب ماشتوتس (٣٦٢ ٤٤٠) يعد الرائد الأكبر للمعرفة والعلم فى التاريخ الأرمنى. هو من ابتكر حروف اللغة الأرمنية فى بداية القرن الخامس الميلادى. ماتيناداران تم افتتاحه فى عام ١٩٥٩. ولا بد لزائر يريفان أن يذهب إليه.
وفى لقاء مع د فاهان دير غيفونديان مدير الماتيناداران  نتجاذب الحديث كعادتنا حول دور هذا المكان التاريخى المتميز فى حفظ الهوية الأرمنية وأيضا تراث الإنسانية. دير غيفونديان يجيد العربية وأفراد من أسرته منذ عقود عاشوا فى المطرية بالقاهرة ثم هاجروا إلى أرمينيا فى الأربعينيات من القرن الماضى.
وأعرف منه أن مثلما ساهم الماتيناداران فى إقامة المعرض الخاص بأرمينيا فى متحف ميتروبوليتان بنيويورك عام ٢٠١٨. هكذا يتم الاستعداد حاليًا لإقامة عرض مخطوطات ووثائق أرمنية فى متحف الكتاب المقدس فى واشنطن فى عام ٢٠٢١. ويذكر لى كيف أن الماتيناداران -هذا المركز الخاص بالمخطوطات والوثائق- لديه الإمكانيات والقدرات العلمية والخبرات الكبيرة ليقوم بدور مهم وحيوى فى الحفاظ على المخطوطات القديمة وأيضًا رقمنتها لكى تبقى للأجيال المقبلة. وأن هناك مساهمة محتملة من ماتيناداران فى الجهود الدولية المبذولة من أجل الحفاظ على ما تم إنقاذه فى الموصل العراق من مخطوطات إسلامية قديمة تعرضت لحملات داعش التدميرية. وإذا كان ماتيناداران لديه نحو ١٧ ألفًا من المخطوطات القديمة فإن ١٩٠٠ منها باللغة العربية. ومنذ سنوات أصدر ماتيناداران فهرس مخطوطات القرآن الكريم الموجودة لديه فى كتاب بثلاث لغات الأرمنية والعربية والإنجليزية. وهناك جزء فى ماتيناداران مخصص للتراث الأرمنى الخاص بالصحة والعلاج بالأعشاب والنباتات الطبية.
أرمينيا الأم وأرمن سوريا
خلال زيارتى ليريفان حضرت مؤتمرًا عن اللاجئين السوريين. تلك الأزمة الدولية التى صارت القضية المثارة عالميًا سياسيًا وإعلاميًا.المؤتمر كان ليوم واحد وبمشاركة خبراء دوليين فى هذا المجال من ألمانيا واليابان ودول أخرى. وخلال ما شهدته سوريا فى السنوات الماضية فإن أكثر من ١٥ ألفًا من أرمن سوريا لجأوا إلى أرمينيا وصار وجودهم ومشاركتهم وبصماتهم فى أرمينيا موضع تقدير واهتمام وثناء وأيضًا موضع تحليل ونقاش يتطرق لكافة الملفات الخاصة بمشاكلهم وإسهاماتهم وتفاعلهم مع المجتمع.المؤتمر كان بالأكاديمية الوطنية الأرمنية للعلوم وبتنظيم معهد الدراسات الشرقية بالأكاديمية. البروفيسور روبين سافراستيان مدير المعهد بالإضافة إلى كبار خبراء المعهد فى الشئون العربية ليليت هاروتونيان وآراكس باشايان لهم نشاط ملموس فى دراسة العلاقات الأرمنية العربية خاصة أن شخصيات أكاديمية وإعلامية مصرية وعربية أخذت تكرر زياراتها لأرمينيا وتبدى اهتمامًا بما يجرى فى هذه البقعة الجغرافية التاريخية وتحديدا فى تأكيد تواصلها الحضارى والثقافى مع الدول العربية عبر الزمن.
أقنعة مصرية وأبو العلاء المعري
للمبدعين الأرمن تجارب مميزة فى التواصل الثقافى والفنى مع شعوب المنطقة وفنانيها. من تلك اللقاءات أتذكر ما حدث فى بداية القرن العشرين مع الفنان الرسام مارديروس ساريان.
ساريان (من مواليد ١٨٨٠) وزيارته لمصر وأيضا لتركيا وإيران كانت فى الفترة ما بين ١٩١٠ و١٩١٣. وكان ساريان فى بداية الثلاثينيات من عمره.وزيارة لمنزل ومتحف ساريان فى الشارع المسمى باسمه فى العاصمة الأرمنية تعطى الفرصة للتعرف على لوحاته المصرية إلهامًا وموضوعًا وهى كثيرة.فى هذا المتحف المتميز نشاهد أيضًا القناع المصرى القديم مستخدمًا فى لوحاته العديدة. وأيضًا صورة له وهو فى منطقة الأهرامات راكبًا الجمل وبعض التذكارات التى أتى بها من مصر. وقد ألهمه الريف المصرى بأهله فانعكس هذا فى لوحات ساريان المبهجة بألوانها. مصر الطبيعة والتاريخ والحضارة ألهمت ساريان وأثرت عالمه الإبداعى وانعكس هذا التأثير المصرى على تعامله مع الألوان والطبيعة والبشر من حوله. مكونات ومكنونات لوحاته المصرية إذا جاز هذا التعبير تحتاج إلى إعادة تأمل ودراسة وتحليل، خصوصًا أن هذا الفنان المبدع خلال فترة قصيرة نسبيًا قضاها فى مصر رسم لوحات عديدة شكّلت مرحلة مهمة وملفتة للانتباه من تاريخه الفنى. ساريان تُوفىّ عام ١٩٧٢ وكان فى الـ٩٢ من عمره.
ومن ضمن الرسومات التى رسمها ساريان غلاف كتاب شعر كتبه الشاعر أفيديك ايساهاكيان بعنوان Աբու Լալա Մահարի أبو لالا ماهارى عن الشاعر والحكيم أبو العلاء المعرى. حكاية إيساهاكيان مع المعرى جديرة بالاهتمام والتأمل. ويذكر أن القصيدة الطويلة التى كتبها إيساهاكيان بدأت تتشكل فى عام ١٩٠٩ بينما كان الشاعر فى رحلة بالقطار ما بين تبليسى ويريفان وشاهد قافلة جمال ومن ثم جاءت فكرة كتابته لقصيدة عن الشاعر العربى. وذكر إيساهاكيان فى حوارات له أنه وجد فى حياة المعرى وحكمته تجسيدًا لمعانٍ كان يبحث عنها وأنه وجد فى كل هذا نفسه أيضا فى تلك المرحلة من شبابه. إيساهاكيان من مواليد ١٨٧٥ وكان كاتبًا متعدد الاهتمامات وغزير الإنتاج وتُوفىّ فى الـ٨١ من عمره. وقد ذكر هذا الشاعر الأرمنى بأنه وهو يكتب عن الشاعر العربى لم يلتزم بكل الحقائق المتواجدة فى حياة المعرى وأنه اتخذ من حكمة المعرى سبيلًا ليقول ما يريد أن يقوله. وكان إيساهاكيان قد قرأ المعرى وعن حياته باللغتين الألمانية والفرنسية. 
ذاكرة الفواكه وحواديتها
لا يمكن أن تأتى سيرة الأرمن وأرمينيا دون الحديث عن الرمان. الثمرة الرمز الحياة والحب والخصوبة والغزارة.والرمان بحباته حاضر حضورًا طاغيًا فى الذاكرة الشعبية والثقافية للأرمن إبداعًا وشعرًا ومعمارًا وحليًا وتطريزًا. وللمخرج السينمائى العالمى سيرجى باراجانوف (الأرمنى الأصل) فيلم دخل تاريخ السينما اسمه «لون الرمان» (١٩٦٨). ثمرة أخرى لها حضور فى الحياة الأرمنية هى المشمش. وقد جاءت ثمرة «المشمش» اللذيذ لتصنف علميا بـ«Prunus Armeniaca» أى «البرقوق الأرمنى».وقد اتخذ الأرمن من لون هذه الثمرة أحد الألوان الثلاثة لعلمهم الوطنى. وبجانب الرمان والمشمش نرى فى أرمينيا أيضا كرمة العنب ونتذوق نبيذه المميز.
أما فى مصر وطالما نتذكر سيرة الأرمن نلتقى بثمرة «اليوسفى» وقدومها إلى مصر. حيث أتى بها يوسف أفندى الأرمنى أحد المبعوثين إلى أوروبا من جانب محمد على حاكم مصر فى بداية القرن التاسع عشر. وقد رجع يوسف أفندى ومعه الفاكهة الجديدة ليزرعها فى مصر وتسمى باسمه.
محطة تأمل من جديد
وأنا أسير فى شوارع يريفان ليلا كان أم نهارا. ثم وأنا جالس فى مقاهيها ومطاعمها وباراتها يأتى فى بالى من حين لحين مشاهد فيلم Midnight Paris «منتصف ليل باريس».. لأن ما يحدث معى بالفعل أو ما أفعله أنا وكأننى المخرج والبطل والمشاهد لفيلم جديد أعيش وأعايش العاصمة الأرمنية مثلما كان الأمر بالنسبة لبطل الفيلم إياه مع العاصمة الفرنسية. فيريفان بالنسبة لى مكان وزمان وإنسان ولقاء الأحباب والتاريخ والذاكرة والأحلام. هكذا تتكون مشاهد فيلمى وأنا مستمتع بإخراجه ومشاهدته.. مشاهدة لقطات منه فالفيلم مهما طال لم يكتمل بعد وحتى هذه اللحظة تبدو لى نهايته مفتوحة!•