الأحد 19 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

ابنى.. وأنا حُر فيه

ابنى..  وأنا حُر فيه
ابنى.. وأنا حُر فيه


 جرِّبْ مَرَّة عندما تسمع صُراخ ابن جارك الذى يضربه والدُه باستمرار، أن تذهب إلى جارك وتقول له بهدوء شديد «لو سمحت لا تضرب ابنك، حرام عليك، دى مش طريقة فى التربية»، فى الغالب سيكون رَدُّه: «وأنت مالك.. ابنى وأنا حُر فيه». كل ما سوف تفعله بعد هذا الرد المُحرج،

هو الانسحاب فى هدوء وأنت تشعر بالعجز أمام هذه المقولة التقليدية التى يتداولها أغلب الآباء والأمهات للتأكيد على حقهم المطلق فى التعامل مع أولادهم كما يحلو لهم، وكأن هؤلاء الأطفال مِلكية خاصة لهم!!!
نَعم أُسَر مصرية كثيرة تعتقد خطًا أن جسد الطفل ومصير حياته ومستقبله شئون عائلية خاصة جدّا، وليس للمجتمع أو القانون دخْلٌ بهم. خطرتْ لى هذه الفكرة، وأنا أتابع القصة الحزينة للطفلة "جنة" التى ماتت نتيجة التعذيب الوحشى من قِبَل جَدتها لأمُّها، وأختها "أمانى" التى تم وضعها فى إحدى دُور الرعاية نتيجة لتعذيب الجَدة أيضًا، ولأن أسرتها من جانب الأب لا تستطيع توفير الحماية والرعاية لها.

أطفال ضحايا العنف الأسَرى

«جنة» ليست الطفلة الوحيدة التى ماتت نتيجة للعنف الأسَرى، فقد عرفنا أطفالًا كثيرين، دفعوا حياتهم ثمنًا لأشكال مختلفة من العنف الأسَرى. والأمثلة كثيرة: وفيات البنات من جرّاء جريمة ختان الإناث التى تتم بموافقة الأهل، ووفيات الأولاد من جراء الهجرة غير المشروعة التى يدفعون إليها من قِبَل أسَرهم، فيموتون فى البحر أو فى أماكن العمل غير المشروع الذى يلتحقون به إذا نجوا من البحر، وحالات وفيات الأطفال العاملين الذين ترسلهم عائلاتهم إلى أسوأ وأخطر أنواع العمل فى المحاجر والمسابك....

الثقافة المجتمعية والعنف ضد الأطفال

يؤكد المسح الصحى السكانى الأخير الصادر عن وزارة الصحة، أن ما يقرب من 77 % من الأمهات والآباء يعتمدون على العقاب البدنى كوسيلة لتربية أطفالهم، وأن 44 %  منهم يعتمدون على العقاب البدنى الشديد للغرض نفسه، فى مقابل 4 % فقط من الآباء والأمهات الذين يعتمدون على الطرُق التربوية غير العنيفة فى ضبط سلوك أطفالهم وتربيتهم. والمعنَى أن قطاعات اجتماعية واسعة تقبل فكرة العقاب البدنى كوسيلة لتربية الأطفال، وأن ثقافة وأساليب التربية غير العنيفة التى تعتمد على الحوار والمشاركة والثواب والعقاب لاتزال محدودة الانتشار وسط الأسَر المصرية.
ولاأزال أتذكر عندما نَظّمَ المجلس القومى للطفولة والأمومة فى عام 2008م عددًا من اللقاءات مع نخبة من أعضاء البرلمان والمفكرين؛ لمناقشة تعديلات قانون الطفل المقدَّمَة إلى البرلمان آنذاك، أن التعديل الخاص بتجريم ضرب الأطفال من قِبَل الأسرة لم يلقَ قبولًا كبيرًا. وأتذكر أيضًا أن أحد الكتاب المعروفين انتقد هذا التعديل فى أحد اللقاءات قائلًا «الضربُ وسيلة مهمة للتربية والانضباط، وأنا أصبحتُ هذا الرجُل الناجح لأن أبى كان يضربنى وأنا صغير».  وفى النهاية اعترض البرلمان على هذا التعديل لأسباب متعلقة بالثقافة المجتمعية التقليدية وبعض التفسيرات الدينية المؤيدة لفكرة الضرب الخفيف من أجل تربية الأطفال.  وصدرت تعديلات قانون الطفل فى العام نفسه دون قانون يُجرم ضرب الأطفال من قِبَل الأهل.

حماية اجتماعية وثقافية وقانونية للطفل

هل الأسرة وحدها قادرة على تربية وحماية الطفل؟ كل الدلائل والوقائع تؤكد أن الأسرة وحدها لا تستطيع، وأنه لا يمكن ترك الطفل ومستقبله فى يد أسرته فقط. فقد ينشأ الطفل فى أسرة ميسورة قادرة على تعليمه وتربيته بشكل جيد، أو ينشأ فى أسرة فقيرة تُهمل تعليمه وترسله إلى سوق العمل فى وقت مبكر. وقد ينشأ الطفل فى أسرة واعية تعرف أساليب التربية الحديثة التى تحترم عقلية الطفل وكرامته الإنسانية، أو ينشأ فى أسرة لا تعرف إلا الضرب والعنف كأسلوب للتربية.
فى هذا الإطار، تطورت قاعدة التزام الدولة بحماية حقوق الطفل؛ لتحقيق المساواة بين الأطفال دون تمييز، وحمايتهم إذا قَصَّرَت الأسرة فى ذلك. وصارت شئون الطفل وحقوقه لا تخص الأسرة وحدها، بل مؤسسات المجتمع كافة، والقانون الذى أصبح يحدد واجبات والتزامات الدولة والأسرة تجاه الطفل.
ينص دستور مصر الحالى- لأول مرّة فى تاريخ الدساتير المصرية- على التزام الدولة بحماية الطفل من جميع أشكال العنف والإساءة. هذه الحماية الدستورية للطفل لاتزال تحتاج إلى تفعيل أكبر على المستوى الثقافى والقانونى وسياسات الحماية الاجتماعية.. وما لا شَك فيه؛ فإن الحادثة الأخيرة للطفلة "جنة"، وقبلها العديد من الحوادث المشابهة، قد أظهرت صحوة الرأى العام والإعلام فى مواجهة العنف ضد الأطفال، وهو ما يعنى تطورًا إيجابيّا فى الثقافة المجتمعية تجاه حقوق الطفل. الأمْرُ الذى يدعونا ليس فقط لرفض العنف ضد الأطفال، بل إلى نشر ثقافة حقوق الطفل والأساليب التربوية المختلفة التى تحترم جسده وعقله وكرامته الإنسانية، وتهدف إلى تكوين شخصيته المستقلة عن طريق الحوار والمشاركة وتحمُّل المسئولية.
ومن هنا؛ فإننى أدعوكم ونفسى إيضا، عندما نرى أحد يضرب ابنه وابنته، أن نأخذ حبوب الشجاعة ونقول له «لا تضرب ابنك وابنتك، أنت لست حُرّا فى ذلك».