الأحد 5 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

الحب كامل والعمر مبذول

الحب كامل والعمر مبذول
الحب كامل والعمر مبذول


أثرت حرب أكتوبر فى المجتمع المصرى، وعبر الإبداع الأدبى والفنى عن هذا التغيير الذى طبع الحياة المصرية، بل العربية بالحيوية، والثقة بالذات القادرة على تحقيق المعجزات.

البنية النفسية والتغيير الاجتماعى
ومن أبرز القصص التى أبرزت هذا التغيير الذى سرى فى الداخل الحميم ممتزجا بالإيمان بروح أكتوبر وعقيدتها التى وقرت فى القلوب وصدقها العبور كفعلٍ بانٍ متوهج قادر ونبيل لما بثه فى النفوس من قيم الانتماء والقدرة على شمول الرؤية واتخاذ القرار، بل خروج الأفكار إلى حيز النور، فى كل مجالات الحياة، فتناولت بعض القصص أثر حرب أكتوبر على انتهاء بعض العادات المأساوية مثل عادة الأخذ بالثأر فى قرى الصعيد، ففى قصة «الحجارة» للسيد الجندى، يصف السارد أحد المقاتلين المصريين يلتقى بخصمه فى الحرب، وكان الخلاف بين أسرتيهما على أشده بسبب وجود الثأر، لكنهما يلتقيان فى ساحة المعركة فيتحول الثأر الشخصى إلى الثأر من الأعداء، فتصالح الخصمان وأنقذ أحدهما الآخر، واتفقا على السفر معا بعد الحرب متآخيين ليضعا نهاية لسفك الدماء بين أسرتيهما، لكن تفشل المحاولة بعد أن لقى أحدهما مصرعه بيد أحد أفراد الأسرة صاحبة الثأر! لكن التغيير كان قد وضع بذرة وهاجة بعد أن غيرت الحرب البنية النفسية والتفكير الاجتماعى لدى المقاتلين الذين شاركوا فيها. «وقد نشرت هذه القصة فى مجلة «القصة» فى يونيو 1977.
وعلى صعيد آخر اهتمت قصة «التيار» لأحمد حامد الغنام بتأكيد انتهاء الثأر بين عائلتين، وتحولهما إلى الثأر من الأعداء فى الحرب مغلبا الآثار الإيجابية للحرب على ما عداها.
وتبدو قصة محمود البدوى - وهو من رواد فن القصة القصيرة المصرية - انتفاضة تدشن بذور التغيير والتفكير فى مراجعة الموروث من العادات والتقاليد فيقول على لسان بطله فى قصة «وردة الجميلة»: «بعد ثلاثين سنة مع حروبنا الدامية مع إسرائيل، سنسكت صوت المدافع، وأنتم مازلتم تتقاتلون على النعجة، والمعزة، وحزمة الحطب»؟! ساخرًا من أولئك الذين يلجأون إلى القتل ببساطة دون أن يفطنوا إلى أن آخرين يضحون بحياتهم من أجل الوطن، بينما تضيع أرواح فى حوادث الثأر بلا ثمن.
«ونشرت القصة فى مجلة الثقافة، عام 1978».
الارتفاع إلى مستوى الأحداث
تغير حقيقى رصدته القصص التى نشرت فى أعقاب حرب أكتوبر 1973، تبرز الأسئلة وتقيم الحوار الإيجابى البنّاء بين الجيران، والأصدقاء وأفراد العائلة، وداخل البيت المصرى الذى بات يراجع عاداته، ويتخلص من المظاهر الاستهلاكية، وترصد قصة «الطفو فوق سطح الأحداث» لإدريس على كم غَيَّرت أحداث الحرب المواطن فيناقش الزوج المشغول بأنباء الحرب والمعركة الدائرة - زوجته التى انشغلت بغلاء السُكّر ونقص بعض المواد الغذائية فيحاول الزوج أن يشرح الظروف التى تمر بها البلاد، وحقيقة الحرب ومأساتها لا مشكلة البحث عن كيلوات من السكر محاولا تعديل أفكار الزوجة لتكون على مستوى ما يحدث من متابعة واهتمام.
«ونشرت القصة فى مجلة القصة فى مارس 1975».
ومن القصص التى اتخذت أسلوب الرمز لهذا التغيير الذى أحس به الجميع كالولادة من جديد، والتهيؤ للإخصاب والثمر ومنها قصة لسكينة فؤاد بعنوان: «فينوس ينمو لها ذراعان» فتصور التغيير الذى طرأ على حياة زوجة مقاتل، تعانى طوال سنوات النكسة من حمل كاذب - ترمز به الكاتبة إلى نصر لا يتحقق - فأرضها لا تطرح ثمرا، لكن الزوجة نفسها تتهيأ للإخصاب عندما تتحول الهزيمة إلى نصر.
«ونُشرت القصة فى مجلة «الجديد» أبريل عام 1974».
قصص الفداء والتضحية
وصورت العديد من القصص بطولة الجندى المصرى واستبساله حتى تحقيق النصر، ومن هذه القصص «مشاهد من شريط لم ينته بعد» لعزت حلمى، وقصة «استشهاد عباد الشمس» للسيد الوكيل، وقصة «رحلة البحر» لمحمد متولى.
«ونُشرت جميعا فى مجلة «الكاتب» فى أكتوبر 1977».
الشال الأخضر
ووصفت بعض القصص المنشورة فى المجلات الأدبية بعد حرب أكتوبر تلك الروح المعتزة الواثقة التى عادت تطبع الحياة بالفرح والثقة، فصورت قصة «الشال الأخضر» لنعيم عطية فتاة تقدم لخالها شالها الأخضر تحية له عندما عاد جريحا منتصرا من الحرب.
«وقد نُشرت فى مجلة الثقافة، مارس 1974».
أما «الإصبع والزناد» لكوثر عبدالدايم فقد صورت الكاتبة فيها إصرار بطلتها على الزواج من خطيبها المقاتل الذى أصيب فى الحرب بإصابة أقعدته معتزة بما حققه للوطن.
«ونُشرت بمجلة الثقافة، سبتمبر 1978».
وفى قصة «حبة رمل.. لونها أحمر» لممدوح محمد مراد يصف انتظار زوجة لزوجها المقاتل.
«ونُشرت فى مجلة «القصة»، يونيو 1977».
حديث الحب والحرب
كما صورت العديد من القصص الجانب الإنسانى فى حياة الجنود فيكتب مرعى مدكور قصته «حديث الحب والحرب» عن قصة حب مؤجلة بسبب الحرب فالحبيبة تنتظر ولا يعرف المقاتل هل يعود أم لا يعود.
«مجلة الكاتب، أكتوبر 1977».
وعالج رجب سعد السيد فى قصته «سياحة فى غابة الأشجار المتحركة» قصة الحرب التى تأكل الزمن والأعمار والأحلام مصورا مأساة الحرب وآثارها على الفرد وبخاصة الجانب الإنسانى فى حياة المحارب مبرزا مدى التضحيات التى يبذلها والتى تجعله رمزا للبطولة والفداء.
«ونُشرت بمجلة القصة، يونيو 1980».
وهكذا كانت حرب أكتوبر وكأنها إعلان حضور للقضية الاجتماعية والإنسانية، ويقين بالقدرة على حل مشكلات المجتمع مهما كانت صعبة أو مستعصية على الحل كما يصفها الشاعر الفلسطينى محمود درويش، بل تحولت إلى خطاب الحرية ومواجهة للعالم فيقول:
«إنها إعلان الحضور، وإنها طريق للوصول إليك، للحرية صوت يشبه صوت الحرب، لكنها تختلف، وإذا كنت حرًا أيها العالم، أو إذا كنت تحب الحرية، ستدرك أنها ليست الحرب، ولكنها ضجة الحرية».
«انتظر أيها العالم.. هاهو وجهنا يخرج من قاع النيل كحمامة كانت تغرق، وهاهى يدنا تخرج من فرن الصحراء كتحية كانت تحترق، وهاهى روحنا تعود من السبى ترتدى جسدا من قمح وشمس وتعود».
من فوهة البركان
تحولت حرب أكتوبر إلى خطاب الحرية، إلى ميلاد جديد، تحولت إلى إيمان بأن خيار الحرب كانت السبيل الوحيد لتحقيق الذات العربية، خطاب إلى العالم بأن العرب قادمون كما يقول محمود درويش: «انتظرنا أيها العالم، انتظرنا قليلا فإن الولادة العسيرة تملأ المدن ونحن قادمون إليك، تأخرنا.. تأخرنا لأننا كنا نبحث عن طريق آخر، ولم تخبرنا أن دهاليز الدم الخصبة هى الدرب الوحيد الذى يفضى إليك، لم تخبرنا أن باب الرحم هو فوهة البركان».
فى مرايا سيناء
أما نزار قبانى فقد رأى سيناء مرآة، بل مرايا لاكتشاف الذات المصرية والعربية، حيث مثلت الحرب حضورا للذات المقاومة المنتصرة، الشاخصة ببصرها إلى أعلى درجات التحقق، والانتصار فيقول فى كلمات عذبة:
«تتعرف مصرعلى وجهها فى مرايا سيناء
تقرأ اسمها فى كتاب الشهادة.. ومزامير
العبور، تقرؤه فى فرح المغامرة، وأبجدية الاقتحام.
تقرؤه على معاطف الجنود المسافرين إلى الضفة الثانية للكبرياء.
تقرؤه فى جراحهم المتلألئة تحت الشمس كأحجار الياقوت..
وحقول شقائق النعمان
وتكتشف مصر صوتها فى رصاص مقاتليها لا فى حناجر مغنيها.
...
تضع مصر خاتمها الفاطمى فى إصبع يدها اليسرى وتصبح عروسا
يقطع القمر إجازته، ويرقص كزوربا اليونانى فى ساحة التحرير
ينزل عمرو بن العاص عن حصانه، ويقدم للعروس عباءته وسيفه.. ويقرأ لها سورة الفتح..».
من منابع الإبداع
وتوهجت الأشجار كما تألقت القصص، انطلق صوت الشعراء عذبا رائعا يصدر عن إيمان عميق بروعة البطولة وبأثر حرب أكتوبر فى الحياة الاجتماعية، والشعورية، بل هى ديوان العاطفة الذی تأجج بالوطنية والانتماء، ومن الملاحظ أن حرب أكتوبر ظلت مصدرا ومنبعا للإبداع الشعرى كتجربة حاضرة ومؤثرة فى وجدان الشعراء وخاصة فى كتابات الشعراء المحاربين الذين خاضوا الحرب، وحضروا المعارك كمقاتلين مثل حسن النجار، ومفرح كريم، وأحمد الحوتى، وقد قرأت قصيدة عن حرب أكتوبر كتبها الشاعر حسن النجار بمجلة «المجلة» فى أكتوبر 2015، وهى من أجمل القصائد التى كتبت عن الحرب بعد مدة طويلة من حدوثها على لسان الشهيد وهى بعنوان: «الشهيد الذى غنى».
«كان لى دور فى هذه الحرب/ أحمل الطعام إلى الجنود/ فى أوقات الهدنة/ وأمشط الأرض بسواك حنينى/ لكى تبدو مرهفة الإحساس بمعنى الحرب/ وأغنى للصبية التى جاءت/ تحمل قارورة الماء طوعا/ وأمشى بها وسط الجنود/ وأقول لهم: عبأت متاريسى بصنوف النجوى/ وأغنى للصبى الذى جاء يحمل الراية/ كان لى دور فى هذه الحرب/ اكتبوا يا رفاق عنى:/ سلمت بلادى من كل سوء/ أنا واحد من ذلك الجيل الذى تربى فى مدرسة المصابين بهوس/ الجياد المسومة../ اكتبوا يا رفاق/ هل رأيتم ذلك المغنى الذى ينظف ماسورة المدفع/ بسترته الملكية/ كى يمنح الدانة هذا الإصرار العجيب/ فى الوصول إلى الهدف؟/ كان لى دور فى هذه الحرب/ لا تمنحونى وسام أياديكم الباهرة/ فقد منحت الوسام الذى أستحقه:
رصاصة قنص أنزلتنى إلى بر الخلود».
فى كل خفقة ميلاد طفل
العديد من قصائد الشعر وصلت إلى المعنى العميق لحرب أكتوبر فرآها فاروق شوشة «وجه اللحظة/ حين يصب الماضى فى الحاضر/ يتصل نداء الإنسان وسعى الإنسان/ اليوم يعود إلى الأشياء مذاق الأشياء».
أما الشاعر محمد إبراهيم أبوسنة، فقد صور خفقة العلم، بعد أن عبر جنودنا البواسل القناة، وتحول العبور إلى رمز للعلم وهو يرفرف فى إباء فيقول:
«رفرف أيها العلم/ يا قلبنا الملىء بالأشواق والغضب/ فى كل خفقة تقول مصر/ حكاية نسيجها الضياء والظفر/ فى كل خفقة ميلاد طفل.. غنوة زفاف/ هاأنت قلب مصر خافق على الضفاف».
وقد اشتهرت من قصائد نصر أكتوبر قصيدتان رائعتان لصلاح عبدالصبور الأولى بعنوان: «إلى أول جندى رفع العلم فى سيناء»، والثانية بعنوان: «إلى أول مقاتل قَبَّل تراب سيناء»، وهى من القصائد التى أعتبرها طاقة حب، وخير، وجمال،  ووساما شعبيا أهداه الشاعر بكلماته إلى الجندى المصرى المقاتل الذى صنع أسطورته وحقق النصر حين أصبح الحب كاملا والشوق موصولا لهذه الأرض، أرض سيناء، حين أصبح الجندى رمزا للقدرة والعطاء ويقول فيها:
«إلى أول مقاتل قَبَّل تراب سيناء،
ترى، ارتجفت شفاهك
عندما أحسست طعم الرمل والحصباء بطعم الدم مبلولا.
وماذا استطعمت شفتاك عند القُبلة الأولى وماذا قلت للرمل الذى ثرثر فى خديك أو كفيك/ حين انهرت تسبيحًا وتقبيلا/ً وحين أراق فى عينيك شوقا كان مغلولا/ ومد لعشقك المشبوب ثوب الرمل محلولا/ وبعد أن ارتوت شفتاك
تراك كشفت صدرك عاريا بالجرح مطلولا دما ومسحته فى صدرها العريان
وكان الدمع والضحكات مجنونين فى سيماك
وكنت تبث ثم تعيد لفظ الحب مذهولا ترى، أم كنت مقتصدا كأنك عابد متبتل/ يستقبل النفحات.
ويبقى السر طى القلب مسدولا/ تُرى أم كنت ترخى حبال الصبر/ حتى تسعد الأوقات
حين تطول كفك كل ما امتدت عليه الشمس والأنداء/ وتأتى فى أمسيات الصفو والصبوات يكون الحب فيها كاملا والود مبذولا/ تنام هناك بين ضلوعها ويذوب فيك الصمت والأصداء/ ويبدو جسمها الذهبى متكئا على الصحراء
ويكون الشاهدان عليكما: النجم والأنداء ويبقى حبل الود للآباء موصولا».