السبت 4 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

عن أبطال الحرب والانتصار

عن أبطال الحرب والانتصار
عن أبطال الحرب والانتصار


كتب: وسيم فريد
ترددت كثيرًا فى أن أبوح بذكرياتى فى  73 حتى لأقرب الناس، لأننى أشعر أنها مشاعر لا تدرك إلا  فى ظروفها، بعض الذكريات والمشاعر مازلت أحتفظ بها لنفسى وأعتبرها شخصية، لكن بعد أن تخطيت السبعين رأيت أن ذكرها مفيد لأجيال شابة، تبحث عما يعيد لها ثقتها بالمستقبل، المجد لأرواح الأبطال الذين استشهدوا ودفعوا حياتهم ثمنًا لإحساسهم بالواجب، ولم يجدوا الوقت لتسجيل قصصهم الرائعة.

بعد أكثر من أسبوعين بين حيرة هل هى الحرب أو مجرد تدريب، الساعة 11 صباحًا يوم 6 أكتوبر إنها الحرب.. حماسة شديدة يعقبها رعب من المجهول، كلنا نعلم مهامنا بدقة، وكيف ستكون البداية ولكن كيف سيكون شكل النهاية؟
مازالت ذكريات 67 ولعنتها عالقة فى أذهاننا وتطاردنا كوابيسها، الموجة الأولى من الهجوم الخسائر المقدره 40 % من الأفراد والمعدات،  نتبادل النظرات شعور بالتوحد والمصير المشترك  من منا سيرحل ومن سينجو؟
بعد  سنوات من العناء من الضربات الجوية من طيران العدو، لأول مرة منذ 67  الساعة 2 ظهرا تمرق من فوق رءوسنا موجات من الطيران المصرى، على ارتفاع منخفض للغاية تتجه إلى سيناء، لدرجة أننا نكاد نرى الطيارين داخل مقصوراتهم، وبعد انتظار تعود الطائرات، الفرحة عارمة والجميع يلوح لها.
بدأ هدير المدافع وتحركت وحدات المشاة تحمل قواربها، المهندسون يسجلون بطولات فى فتح الثغرات وفى إنشاء الكبارى،  الدفاع الجوى يسيطر وطيران العدو يتساقط، تحولت الجبهة إلى مسرح تتواجد عليه أوركسترا جبارة، تتكون من مئات الآلاف من العازفين، الكل يعلم دوره وتوقيته بدقة، إحساس شديد بالثقة والتكاتف.. تلاشت عقدة 67 ، الكل ينسى ذاته، شعور جارف بالفخر.
فجر منعش
بعد ليلة صاخبة عنيفة انتهت الكبارى وتم فتح الثغرات، التحرك فجرًا إلى المعبر، الفجر منعش بهواء الخريف البارد، والشمس تشرق من فوق  سيناء حمراء قانية، مياه القناة سريعة وزرقتها عميقة.
المهندسون مصطفون على أجناب الكبارى للتعامل مع المحاولات المستمرة من طيران ومدفعية العدو لتدمير المعبر. بادٍ على وجوههم الإرهاق المختلط بالفخر، الدماء وآثار الشظايا تغطى أجزاء من المعبر. نصل إلى أرض سيناء.
المرور فى اتجاه واحد فقط ، لا عودة على المعبر حتى لعربات الإسعاف،  الجرحى من الموجات الأولى سيتم التعامل الطبى معهم فى سيناء مهما كانت حجم الإصابة لأنه لا عودة للخلف،  الخسائر أقل كثيرًا من المتوقع.
ثمن النصر
كنت أقاتل ضمن قوات الجيش الثالث، وبعد أن وطأت أقدامنا أرض سيناء فجر 7 أكتوبر انتشرنا فى مواقعنا التى لم تكن قبلاً أكثر من نقطة على خريطة عسكرية، تحول حلم السنين إلى واقع، خسائرنا قابلناها بصدر رحب، فقد كنا مهيئين لقبول المزيد، لأنها ثمن النصر وليست أرواحا مهدرة بلا طائل.
8 أكتوبر تم تحقيق المهمة وتعزيز موقعنا، محاولات العدو لدفعنا للخلف تفشل، إذاعة مونت كارلو وال بى بى سى فى الراديو الترانزستورز تتحدثان عن تحطيم خط بارلييف وتقدم المصريين.
 لأول مرة من قرون نشارك فى صنع التاريخ كفاعلين وليس كمفعول بهم،   وحدات المهندسين تنشئ مواقع ميدانية سريعة من شكاير الرمل، لقواعد صواريخ الدفاع الجوى، مستغلين ظلام الليل تتحرك بعض القواعد لاحتلال موقعها الجديدة لمد مظلة حائط الصواريخ شرقًا، يتم قصفها بضربات مركزة من مدفعية العدو بعيدة المدى تمنعها من تحقيق مهامها، ويتم سحب القواعد.
10 أكتوبر عبور قوات النسق الثانى المكلفة بالقضاء على أى اختراقات للعدو والتعامل مع أى ثغرات فى الجبهة من غرب القنال إلى شرقها، بغرض تطوير الهجوم والاندفاع شرقًا وجنوبًا للوصول إلى الممرات، تتعرض قوات التطوير لضربات جوية مكثفة، تلحق بها خسائر جسيمة تضطرها للانسحاب.
14 أكتوبر يلقى السادات خطابه فى مجلس الشعب، ويقلد الأنواط للمشير أحمد إسماعيل احتفالا بالنصر، 16 أكتوبر وحدات عسكرية مقاتلة من سيناء تعبر القنال إلى الضفة الغربية للتعامل مع قوات العدو، لقد بدأت الثغرة.
18 أكتوبر قوات العدو  بالثغرة نجحت تدريجيًا فى خلخلة قدرة حائط الصواريخ على الضفة الغربية، ثم بدأ العدو غاراته الجوية المكثفة على الجيش الثالث بكل أنواع القنابل بما فيها القنابل العنقودية، ورغم غياب حائط الصواريخ قاتلت وحدات مدفعية الدفاع الجوى ببسالة نادرة، اورتفعت الخسائر وبدأت بوادر الحصار.
سرير نظيف وكوب لبن وسكون
أصبت  فى فخذيى يوم 21 من انفجار قنبلة عنقودية، أثناء محاولة إبطالها، الإصابة لم تكن مؤلمة فى الساعات الأولى، ولم تكن  تعوقنى عن الحركة، وتم إخلائى إلى مستشفى السويس العام، الذى تحول إلى مستشفى عسكرى.
كنت أرى أنها إصابة طفيفة وأنه يمكننى الاستمرار فى موقعى، وأن التخلى عن رفاق وحدتى التى خدمت فيها 5 سنوات، فى هذا الوقت الحرج هو نوع من الهروب والخيانة، ولم أنس نظراتهم التى حملت رجاء مكتومًا بعدم التخلى عنهم.
وصلت المستشفى والمدينة تتعرض للقصف، الكثير من أهالى السويس يحاولون تقديم المساعدة والطعام للجرحى، كنت أقلهم إصابة، تقدمت لى سيدة ريفية رقيقة الحال تحمل إناء وسكبت لى كوبًا من اللبن، ثم بدأت تنظف وجهى من الأتربة والرمال بغطاء رأسها،   مصممة أن أشرب الكوب لآخره، كانت أكثر اللحظات تأثيرًا علىّ على الإطلاق.
قرر الأطباء أن الإصابة ليست خطيرة، ولكن لا يمكن التعامل معها جراحيًا، حيث إن الجرح متهتك ويحتاج إلى نظافة وغيار بانتظام، وحولت لمستشفى عسكرى بالقاهرة، القوات الإسرائيلية اقتربت من طريق السويس وبدأت بقصفه، وفى نفس الوقت طوابير من قوات المظلات تتقدم من القاهرة متجهة للسويس، للقضاء على الثغرة، بعد ساعات طويلة تمكنا من الوصول للقاهرة.
عقدة النجاة
فور وصولى المستشفى قوبلت بعناية وتعاطف، أخيرًا وجدت نفسى على سرير نظيف وملابسى نظيفة، وسكون لا يقطعه أزيز طائرات أوانفجارات أو صيحات ألم، لكن لم يفارقنى الإحساس بالذنب ورغبة أن أكون مع الرفاق وسط الأحداث «ما يطلق عليه علماء النفس عقدة النجاة».
محاولة تخمين الأحداث من الأقوال المتناقضة  للمصابين الجدد والإجابات الغامضة المبتورة تزيدنى قلقًا، وبعد ازدياد الأعداد سأل الأطباء الجرحى عمن  يجد فى نفسه القدرة على العناية بنفسه، ليتسلم العلاج والغيار ويغادر المستشفى، لترك مكان لآخر، فطلبت الخروج فى 23 أكتوبر، على أن أعود إذا حدثت مضاعفات، وأعطونى 35 يومًا إجازة مرضية.
الأنباء من الجبهة غامضة ومربكة لمن تعود أن يكون فى وسط الأحداث، يوم 25 أكتوبر قررت قطع الإجازة، اتصلت بإدارة سلاحى وصرح لى بالعودة، مطالبات من مجلس الأمن بوقف إطلاق النيران، لم أكن أعلم أن الجيش الثالث يتعرض للحصار.
إسرائيل لا تريد الاستجابة إلا بعد إتمام الحصار واحتلال السويس،  فى 27 أكتوبر تم وقف إطلاق النيران،  بعد أن تكبدت إسرائيل  خسائر جسيمة وتأكدت أن ثمن احتلال السويس سيكون فادحًا.
أنباء غامضة ومربكة
حاولت الوصول إلى السويس ولم أتمكن، الوضع كان مختلفًا تمامًا عما تركته قبل أربعة أيام، الطيران الإسرائيلى يعربد فوق رءوسنا، سلمت نفسى لقيادة الجيش، والتحقت بوحدة من وحدات يتم تجهيزها للقضاء على الثغرة، كانت معنا وحدات من الجيش الجزائرى والمغربى والسودانى، كانوا يتمتعون بالحماس والرغبة فى المشاركة، ولكن مستوى التسليح والتدريب كان متواضعًا، كانت المشاركة معنوية.
بدأت مباحثات الكيلو 101 وإعلان الهدنة، وأعدت خطة لإعادة انتشار قوات الطرفين وفض الاشتباك، وتم إخلاء الجرحى المحاصرين وسمح بإدخال مواد غذائية ومياه للقوات المحاصرة، تحت إشراف القوات الدولية بعد تفتيشها من الإسرائيلين.
كاريكاتيرات خارجة وخطابات رعب
فى 25 يناير 74  قامت القوات الإسرائيلية  بتدمير الطرق وتلغيمها لتأمين انسحابها، وبصفتى الهندسية شاركت فى تأمين طرق التقدم وإزالة الموانع، سعدت بالمهمة لأنها ستمكننى من أن أكون من أوائل من يدخلون السويس وسيناء وسألتقى بأفراد وحدتى الأصلية.
تقدمنا من الجنوب على الطريق الساحلى الموازى لخليج السويس، وعبرنا من السويس إلى الشرق، كانت حوائط أماكن إيواء الجنود الإسرائيليين مليئة بالصور الكريكاتورية الخارجة لموشى ديان وجولدا مائير، وجدت خطابات بالإنجليزية يبدو أنها لمتطوعين من أمريكا لذويهم، تنم عن انخفاض الروح المعنوية للقوات الإسرائيلية بالثغرة، وإحساسهم بعدم أمان وبعد مخيف عن قواعدهم.
مداخل السويس مثل ستالينجراد بعد الحرب، دمار ينم عن قصف مكثف من العدو ومقاومة عنيدة وصلبة من المدافعين عن المدينة، من العسكريين الذين احتموا بها من الضربات الجوية الإسرائيلية بالصحراء المكشوفة، عشرات من مدرعات ودبابات إسرائيلية مدمرة فى شوارع ومداخل المدينة الشبه خالية.
المدنيون القليلون قابلونا بالأحضان، رجل مسن ضرير يقوده طفل عمره 5 سنوات، بملابس مهلهلة، يسأل بذعر «مصريين ولا يهود»؟ والطفل يجيب: مصريين، والرجل يكرر السؤال، فأجبته بأننا مصريون، فطلب من الطفل أن يقوده إلى مكانى ليصافحنى، مددت يدى وحينما تحسسها أدرك أنى أركب شيئًا مرتفعًا، فقبلها وبكى.
3 حروب وأخيرا استشهد
أخيرًا دخلنا سيناء، الجنود مهندمون وروحهم المعنوية مرتفعة، لم يصدقوا حينما رأونا أن الطريق قد فتح، لاتزال لديهم ذخيرة وبعض الوقود، وأخيرًا وصلت وحدتى، كان اللقاء حارًا ومؤثرًا، جلست على الأرض وتحلقوا حولى، فلاحظت وجوها غائبة،  سألت وأنا أخشى الإجابة، فأخبرونى عن الضحايا والمصابين وكيف أصيبوا وأين دفنوا، أغلب الخسائر كانت بعد الثغرة ، كان منهم سائقى الخاص الصعيدى من أبنوب، ذهب إلى اليمن ومنها إلى 67 وصاحبنى فى الاستنزاف واستشهد أخيرًا بعد أن قضى 8 سنوات مجندًا.
كان من الفرع الفقير من أسرة ميسورة، تبادل الحب مع ابنة عمه ومانع العم فى الزواج، لأنه لا يليق بها وهى حاصلة على دبلوم وهو بالكاد يقرأ،  تزوجا قبل الحرب بسنة ورزق طفلة كان دائمًا ما يقول لى: «هعلمها وأخليها دكتورة مش هتطلع فقيرة وجاهلة زى أبوها».
استمرت جلستنا بصمت تام وأنا محملق للأرض لنصف ساعة، حضر ضباط من وحدات مجاورة للسلام ومعرفة الأخبار والتأكد من فتح الطريق، ظلوا منتظرين بعيدًا حتى نهضت وذهبت لتحيتهم، تركت سيناء ورفاقى وعدت إلى وحدتى الجديدة، كنت قائدًا لوحدات أخرى فى ظروف وأماكن مختلفة، لكن لم أرتبط بأى منها بالقدر الذى ربطنى بوحدتى الأصلية، وللآن أحتفظ بعلاقات مع بعضهم، مكالمات فى الأعياد وخاصة فى ذكرى 6 أكتوبر، وإن كان الكثير منهم قد رحلوا.