الجمعة 10 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

شهادتى عن معركة  المنصورة

شهادتى عن معركة  المنصورة
شهادتى عن معركة  المنصورة


كما أن ذكريات الألم والدمار والحصار لا يمكن أن تُنسى، هكذا هى أيضًا ذكريات المقاومة والنضال والنصر، محفورة فى ذاكرة من عاصرها كما هى محفورة فى أجسادهم وأياديهم التى ربما لا تزال تحمل شاهدًا على الحرب.


فى مدينة بورسعيد الباسلة؛ حيث كان الألم والأمل وجهين لعملة واحدة؛ مدينة تملؤها الذكريات، على أوجه مبانيها ترتسم ملامح الحداثة، لكنها عبثًا تغطى ماضيًا لم تفلح خطوط وجوه الطيبين فى مداراته. بين ألحان السمسمية وصافرات العَبَّارات تتذكر المدينة ما لم تنسه يومًا، نصرًا بعد هزيمة وسلمًا بعد حرب، مرت من هنا وتركت بصمةً فى القلوب ومشهدًا فى العقول، يتذكر الكبار فى مدن القناة ويحكون للصغار، فهناك حيث تعلو تلك الأبراج كنت مرابطًا فى خندقى وهنا حيث يلهو الأحفاد خضبت الأرضَ دماءُ الرفقاء، على ناصية الشارع الأنيق كان بيت جارى تنهشه طائرات العدو حتى ذرته  كالهشيم.
 البدرى فرغلى يحكى ذكريات الكفاح فى قاعدة «شاوة» الجوية.
ذكريات الحرب خلدتها الأفلام والكتب والمقالات كما خلدها فى شبابه «البدرى فرغلى»، يروى لـ «صباح الخير» جزءًا مما يتسامر حوله مع من تبقى من أعضاء المقاومة الشعبية فى بورسعيد، كان فرغلى مسئولًا عن شباب بورسعيد المُهجّّر إبان حرب أكتوبر إلى المنصورة، بعد أن كان فى مدينته مشتركًا مع المقاومة الشعبية.
تبدأ ذكرياته مع أيام الحرب أثناء تواجده مع شباب بورسعيد فى مقر منظمة الشباب الاشتراكى فوق مقهى «أندريا» بالمنصورة  فى الثامن من أكتوبر 1973، حين رن الهاتف وأجاب فرغلى وكان المشهد كما وصفه قائلًا: «500 شاب من شباب الجامعات وطلاب الثانوى، بينما كنا مجتمعين بمقر منظمة الشباب الاشتراكى فوق مقهى «أندريا» ننتظر تقديم المساعدة أيًا كانت رن الهاتف، كان محافظ الدقهلية محمد إبراهيم الدكرورى، فى ذلك الوقت يتصل بهاتف المقر وطلب منى إعداد الشباب للنزول فورًا لجهة ستحدد لنا فى الطريق، وبعد دقائق بعثوا لنا بعشر حافلات وسيارتى نقل وعلى الفور نزلنا.
تبين لنا أن الوجهة هى قاعدة «شاوة» الجوية. طلب منى رئيس القاعدة توزيع الشباب للعمل على إصلاح المطار مما أصابه من عدوان الطيران الصهيونى، كانت المهمات تتمثل فى إعادة ممرات المطار للخدمة، تمكنا من إزالة كم هائل من الأتربة ورأب الثغرات التى تم قصفها نهارًا، استمررنا فى العمل حتى طلوع الفجر، ثم طلب منى القائد سحب الشباب على الفور إلى مدينة المنصورة».
3 أيام قضاها شباب الاتحاد الاشتراكى عملًا بلا راحة
بعد أن قضى الشباب البورسعيدى وعلى رأسهم فرغلى ليلة الثامن من أكتوبر يعملون على إعادة بناء مطار القاعدة، عادوا إلى المقر ينتظرون تقديم المزيد، غير عابئين بجراح أصابت أياديهم الشابة، لا يلقون بالًا لطعامٍ أو راحة، حتى انتبهوا إلى أصوات ضربات عنيفة باتجاه قاعدة شاوة فى صباح التاسع من أكتوبر حتى غروب الشمس.
يرن هاتف المقر حاملًا معه تعليمات جديدة كما يقول فرغلى: «رن الهاتف فى التاسع من أكتوبر وقت المغرب، كان المحافظ يطلب منى إعداد الشباب للنزول ثانيةً، اتجهنا إلى المطار الذى كان دمارًا أكثر مما كان فى اليوم السابق، علمنا أن هذا الرد العنيف جاء بعدما هاجمت الطائرات المصرية الجبهة الشرقية للقنال وأوقفت تقدم العدو.
بحماس أكبر من اليوم السابق شرعنا بالعمل، أزلنا الأتربة وأصلحنا الممرات، ورأينا بأعيننا الطائرات المصرية تخرج من الحظائر بين هتافات الشباب الذين أشار لهم الطيارون المصريون بعلامة النصر، ثم انطلقت فى غارة أخرى على العدو وانسحبنا كما حدث فى اليوم السابق».
العمل وسط القنابل الزمنية
كان الشباب المدنيون ورغم انعدام خبرتهم فى التعامل مع مثل هذه الأعمال، هم الجُنْد المجهول فى صفوف الجيش المصرى، سلاح آخر تزودنا به وكان خير زاد، بعد يومين من العمل الشاق بالمطار نال الشباب ما نالهم من إصابات، تسلخت جلود الأيادى وتَشَرح لحمهم، ومنهم من كان يضمد جراحه ثم يعود ليعمل كما يحكى فرغلى: «بعد اليوم الثانى من العمل كان الوضع للشباب صعبًا جدًا فجميعهم طلبة متطوعون لم يسبق لهم العمل، منهم من تسلخت أيديه ولفها بالشاش وبدلًا من أن نتجه إلى بيوتنا التى هجرنا إليها فى المنصورة إبان النكسة، اتجهنا مرة أخرى إلى مقر الشباب.
عند الخامسة مساءً كان نفس الهاتف ونفس المحافظ وتوجهنا إلى القاعدة بنفس الحماس رغم الدماء التى كانت تقطر من أيادى بعض الشباب، العاشر من أكتوبر شهد المطار دمارًا كما فى اليومين الماضيين، إلا أن هذه المرة نبهنى قائد القاعدة لوجود قنابل زمنية، أُلقيت بين الممرات وطلب منى ألا أخبر أحدًا من الشباب حتى لا نثبط من هممهم. بعد الانتهاء من إزالة الأتربة ورأب الثغرات للمرة الثالثة خرجت الطائرات من حظائرها وسط هتافنا الله أكبر وكأن الحماس لا يفتر رغم التعب».
اليوم الرابع يشهد معركة جوية تندحر فى نهايتها قوات العدو «معركة المنصورة الجوية».
كان من المفترض أن يتجه فرغلى ومن معه من الشباب إلى المنصورة بناءً على توجيهات القائد كما فى اليومين السابقَين إلا أن الحافلات انسحبت قبل وصولهم وانسحبوا إلى المدينة سيرًا على الأقدام، اتجهوا إلى المقر للمرة الرابعة انتظارًا لتعليمات، لكن هذا المساء لم يرن الهاتف مرة أخرى. وفى صباح الـ11 من أكتوبر شهدت سماء المنصورة معركة جوية ضارية كان أكبر تصدٍ لها فى الـ 14 من أكتوبر حيث ذكرى معركة المنصورة الجوية.
تمر السنوات ومازلنا نلتقى
رفقاء الجهاد والواجب الوطنى ليس بالضرورة أن يرتدوا الكاكى أو يحملوا الأسلحة، فكما يوجد الجيش الأول والثانى والثالث يوجد الجيش المدنى، فى كل شبر فى مدن القناة  كانوا يتمنون الموت فى سبيل استرجاع أرضهم وبيوتهم، وفى كل مكان يستدعى العمل تقدموا كما يخبرنا فرغلى كان الشباب يحملون الأقلام وحين دقت أجراس الحرب حملوا المعاول والفُئُوس.
 مرت السنوات وأصبحت الحرب وأيام النصر أوالشهادة ذكرى للبعض وشريط حياة للبعض الآخر، مازال الرفقاء يلتقون على شاطئ المدينة الباسلة لا ينتظرون تكريمًا أكبر من خدمة الوطن، يخبرنا فرغلى عما آلت إليه أمورهم قائلًا: «أصبح جميعنا على المعاش الآن والبعض يعمل معنا باتحاد أصحاب المعاشات الذى أترأسه، وكلما اجتمعنا تكون ذكريات أكتوبر حاضرة وكأننا نرى خنادقنا التى تمركزنا بها أيام المقاومة الشعبية ببورسعيد رأى العين، كنا نحرس الشاطئ من أى تسلل للعدو والأماكن الحيوية بالمدينة تحرزًا من أى عمليات تخريب قد تطالها، استمررنا فى المقاومة ببورسعيد من أول طلقة بعد 67 حتى تهجيرى فى 72 من بورسعيد خمس سنوات قضيتها فى خنادق المدينة، رغم ما تغير من معالم المدينة تظل ذكريات لا تُنسى سطّرها شباب بورسعيد فى مدينته مقاومًا ثم مهجرًا بالمنصورة».
تلبية نداء الوطن هو أعظم تكريم
عاد فرغلى فى نهاية عام 73 وبداية 74 مع العديد من الأُسَر التى هجرت إلى مدنهم، حتى تم اعتقاله نهاية 1974 بتهمة كتابة أشعار معادية وتم نقله مع حوالى 40 شابًا إلى سجن الزقازيق ثم الإفراج عنهم بعد شهرين.
أضاف فرغلى، إن كل ما قام به سواء مع المقاومة إبان الحرب أو بعدها لو عاد به الزمن مرات ومرات سيعيده المرة تلو الأخرى: «مازلت أتذكر أيادى الشباب المسلوخة والملفوفة بالشاش مخضبًا بالدماء وهم يحملون الفئوس والمعاول ربما يتألمون، لكن عزيمتهم لم تخُر، عدنا إلى بورسعيد ومارسنا أعمالنا كما كنا وكان أعظم تكريم من الوطن هو تلبية ندائه والآن نعيش على الذكريات».