الأربعاء 8 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

من حق أولادنا أن يعرفوا ويزهوا

من حق أولادنا  أن يعرفوا ويزهوا
من حق أولادنا أن يعرفوا ويزهوا


 د. ثناء هاشم
 أستاذ فى معهد السينما


  تلك الطفلة التى لم تكن قد تجاوزت سنواتها الأولى، تجلس ساهمة وحيدة على سور منخفض مهدم، تمتد أمامها مساحات واسعة من الخراب والوحشة، بيوت كانت يومًا دافئة آمنة تدلت حيطانها وتهدّمت شرفاتها فتعرت بطون البيوت التى كانت يومًا ما تستر أصحابها، بقايا أثاث محطم، أخشاب حجرة نوم، بقايا مطبخ كان ذات يوم عامرًا، باختصار بقايا حياة.

 مشهد لم يُمح من ذاكرتى رغم مرور عشرات السنين على انقضائه، يهرع أبى من باب بيتنا الكائن بحى الأفرنج والمواجه لتلك الخرابة تجاهى فزعًا، يوبخنى على جلوسى على هذا السور الذى حذرنى من اللعب بجانبه مرارًا، (لا نعرف ماذا يحوى وراءه، كونى حذرة)، أتعجب من تلك الجملة التى لم أكن أسمع غيرها، فالحى سكانه يعدون على أصابع اليد الواحدة، لا أدرى لم نحن هنا وحدنا وسط هذا الدمار، أريد أن ألعب وأخرج ليل نهار، ودائمًا  (كونى حذرة).
 لكن أبى الذى عاد بى وبأمى بعد حرب أكتوبر 73 مباشرة من الصعيد، وأنا بين ذراعيها طفلة رضيعة كان ضابطًا بالجيش الثانى الميدانى، وشارك وهو لم يتجاوز الخامسة والعشرين فى الحرب، وكان عليه أن يتسلم مهام عمله بالإسماعيلية، تلك المدينة التى كانت عائلة أمى تسكنها لسنوات طويلة مع جدى الذى حارب فى ثلاث حروب كاملة 48 ، 56 ، و 67 تلك الحرب الأخيرة التى  اصطحب بعدها جدى أمى وجدتى وسافر بهما لمسقط رأسه فى مدينة بنى سويف ولم يعودوا لبيتهم القديم ثانية.
 أبى أصلح جهاز الإرسال
 أبى الذى كان يدرك حقيقة ما أعانيه وتعانيه أمى بالتأكيد، والذى كان هو مصدر الأمان الوحيد لى ولها بهذه المدينة الجميلة الموحشة، كان يلف بى أرجاءها، يحكى لى لِم نحن هنا وليس بجانب أقربائنا، وما فعلوه أبطالنا البواسل الأحياء منهم والشهداء من أجل استرداد الأرض والكرامة، عبر بى القناة وأنا طفلة لأشاهد خط بارليف وكيف أنهم اخترقوا ذلك الساتر المهيب وأطاحوا بتلك الأسطورة.
 أرانى آثار العدو الصهيونى ووحشيته فى كل مكان من سيناء الحبيبة، حكى لى بفرحة طفل عن جهاز الإرسال الذى توقف عن العمل أثناء الحرب فأصلحه بيده بمهارة، حتى صار الصوت يصدر منه فى نقاوة صوت العرب، وكيف أن قائده احتضنه بفخر وأشاد بعبقريته، مثلما حكى لى بأسى مكلوم عمن فقده من أصدقاء وإخوة أمام عينيه، وقد كان صوتهم وإصرارهم على الحياة والنصر يملأ الكون منذ دقائق معدودة، وكيف أنهم كانوا يقضون الطريق مسافرين لذويهم حائرين لا يعرفون وقع خبر استشهادهم عليهم، ثم يفاجأون بأن الأمهات يستقبلن الخبر بالدمع الحار والزغاريد، وأن نساءً عاديات كن جل ما يشغلهن أن يقسم لهن زملاء أبنائهن الشهداء أنهم ماتوا أبطالا لا جبناء من أجل الأرض والعرض، يا الله ما هذا الشعب الغريب المحير الذى يعشق أرضه لهذا الحد ولا يعنيه الموت، فقط ما يعنيه أن من راح فدائها راح بشرف لا بجبن وخذلان.
ويلات ما بعد الحرب
كان كل شبر بالإسماعيلية فخًا محتملًا للموت، كل كومة رمال، كل ركام من الهدد ينبغى تجنبه لأنه ربما يخفى قنبلة قابلة لأن تحول من يعبر فوقها لأشلاء، ظللنا لسنوات لا نكف عن سماع خبر انفجار هنا أو هناك، تارة بجانب مدرسة وتارة بجانب حديقة، وتارة أخرى وراء بيت، الحروب ثمنها فادح لا يعرفه إلا من عاشها ورآها رأى العين وانكوى بويلاتها.
كانت جدتى تأتى للإسماعيلية فى زيارات متباعدة لنا، وفى كل مرة تصر على أن تحج لبيتها القديم بحى العراشية وما تبقى منه، تمشى فى الشوارع المحيطة به تتلمس ذكرياتها المنقضية، وتود جارتها الوحيدة التى عادت بعد التهجير، وتتذكران معا باقى الجارات وتجتران الذكريات الحلو منها والمر، حكت لى جدتى بمرارة كيف كان« اليهود» بعد النكسة يقتحمون البيوت يقلبون الأسرّة وينبشون الدواليب ويحطمون المطابخ ويتحرشن بالنساء ويمضون وهم يضحكون ضحكات خليعة مخزية، وكيف أنها كانت تجرى بالشوارع وأمى صغيرة تهرول بجانبها تحت قصف مفاجئ والبارود يتدحرج حولهما كالحجارة فيما تحمل هى أمى تارة وتنزلها تارة لتجرى بجانبها، وهى تظللها بشالها الذى ترتديه، ليحملهما جدى بعد ذلك للصعيد تحسبًا لحرب مؤكدة الحدوث إبان فترة الاستنزاف التى كان مشاركًا بها.
هكذا تركت أمى بيتها بأمر الدولة
 وحكت لى أيضا كيف أنها بكت وقاومت ترك بيتها وأثاثها وجاراتها، ولكنها رضخت فى النهاية عندما بدأت عملية التهجير الجماعى بأمر من الدولة لإخلاء منطقة القناة تمامًا حرصًا على حياة المدنيين، بعدما أصبح الوضع خطرًا جدًا، وأنها باتت تخشى أن تصبح وحيدة مع أمى فى المدينة والتى لم تكن قد أنجبت وقتها غيرها، ولنقص الغذاء والمواد الأساسية بعد أن رحل أغلب البقالين وأفرغت معظم الدكاكين من بضاعتها ورحل أصحابها.
فلاح وجندى من أجل الأرض
وعندما عاد جدى لمسقط رأسه فرغ نفسه لرعاية أرضه السوداء، كان يقضى بأرضه أغلب يومه ولا يعود للبيت إلا مع رحيل آخر ضوء، كان يجلس ساهمًا تحت تكعيبة عنبه الزاهية يراقب الزرع والقلع فى أرضه سارحًا، وكنت عندما نزورهم أرافقه وأبقى معه وسط الغيطان معظم الوقت، كان يتدفق فجأة فى الحديث ويحكى لى عن الثلاث حروب التى حضرها والبطولات التى صنعوها والخذلان الذى تعرضوا له أيضًا، كنت أسأله وما علاقة الجندية بالفلاحة يا جدى، فكان ينظر لى مليًا ثم يرشف رشفة من شايه الثقيل ويربت على يدى وهو يجيب ( يا مغفلة.. الأرض، فى الحروب دى كنا بنموت علشان الأرض، وأنا دلوقت براعى برضه الأرض ).
 نغز النياشين والأنواط
كان جدى يغبط أبى وجيله كثيرا لأنه حارب فى أكتوبر 73 ، وكان يحتفظ بأنواط ونياشين للتميز والشجاعة حصل عليها فترة خدمته بالجيش، فكان يحلو لى أن أتفرج عليها وألهو بها وأنا طفلة قبل أن تأخذها جدتى من يدى بصرامة وتعيدها بحرص لأماكنها المقدسة، فكان يبتسم ويقول لها (كل النياشين دى ما كانتش تهمنى لو ولادى ما عبروش ورجعوا أرضنا، وردوا لنا كرامتنا، قبل النصر كانت بتنغزنى زى الإبر)
لعل ما يسوءنى الآن وأنا أدرس لطلابى فى معهد السينما مادة تاريخ السينما العربية، ونتحدث عن فترة السبعينيات وما بعدها من تاريخ وأفلام، أن معظمهم لا يعرفون شيئًا عن حرب أكتوبر، إحدى أهم وأعظم الحروب التى خاضتها مصر فى تاريخها الحديث، ولا يعرفون شيئًا عن تفاصيلها وأبطالها وشهدائها، والأثمان الباهظة التى دفعوها ومعهم الشعب المصرى الصامد الذى كان وجنوده يتعجلون يوم الكرامة كمطلع العيد منذ هزيمة 67 .
 لا يعرفون عن هذه الحرب سوى ما حكته لهم الأفلام القليلة التى لم ننتج غيرها منذ سنوات طويلة، بل وبعضهم يتندر ببعض مشاهدها والتى بدت مع مرور الزمن ساذجة بدائية، يؤلمنى هذا كثيرًا وأنا ابنة مدينة عانت الويلات وابنة لأب كان أحد أبطالها، وقد ظل لفترة طويلة بعد انتهاء الحرب ينهض من نومه فزعًا عندما تمر ذكرى الحرب والدماء والأشلاء والشهداء فى كوابيسه وأحلامه، فنفزع لفزعه ونقدر ما مر به هو وأبطالنا لكى نتمكن من الحياة رافعين رءوسنا، ولنعيش فى وطن حر طهرت دماء أبنائه الزكية دنس محتليه.
 وأتساءل لماذا لم ننتج أفلامًا أخرى عظيمة وحقيقية وحية عن هذه الحرب التى لا ولن تنضب ملاحمها أبدًا، والتى أخشى مع الزمن أن يأتى جيل لا يعرف عنها شيئًا، ستنقضى يومًا ما تلك الأجيال التى لم يكن يخلو بيت لهم من محارب أو شهيد، ستبهت المعلومات والذكريات ويمضى شهود العيان وأولادهم وأحفادهم من الحياة، ولن يتبق لنا ذاكرة لو لم نسارع بتوثيقها مثلما فعلت شعوب الدنيا مع الحروب التى خاضتها وأثرت فى وجودها من أجل أجيال قادمة، لها الحق فى أن يكون لها مثل وقيم ومفاخر تعينهم على بناء طريقهم ومستقبلهم وأوطانهم بشرف وعزة وكرامة ورفعة وتفانٍ، وأن يعرفوا معنى الوطن وقدسيته، وأن لدينا بحق فى تاريخنا ما يستحق أن نفخر به ونزهو .