محطات الذاكرة و الأحلام

صباح الخير
يجب أن أقر وأعترف بأننى أينما كنت أو أينما ذهبت يشغلنى دوما البشر وحواديتهم.. تحركنى الرغبة فى أن أعيش الحدوتة بكل تفاصيلها وأيضًا يدفعنى الشغف فى أن أرويها كما عشتها. إنها لذة معايشة البشر وحواديتهم وأيضًا متعة حكيها بأكثر من طريقة. وهذه المرة بما أننى كنت من جديد فى أرمينيا لعدة أسابيع فإن حواديت أرمينية عديدة لاقت صدى فى قلبى وأخذت تطاردنى وتلح علىَّ لكى يتم حكيها.. بطريقتى المعتادة وأسلوبى المفضل فى تضفير المعانى وتحويلها إلى مشربية حكى تضم العاشق والمعشوق.
مع وصولى إلى يريفان عاصمة أرمينيا وجدت مئات من الأرمن من مصر ومن دول العالم جاءوا للمشاركة فى ألعاب ومباريات رياضية خلقت أجواء تآخٍ وتلاقٍ وتواصل طالما سعى اليها الأرمن أينما كانوا سواء فى أرمينيا أو فى الشتات، خاصة أن الجذور والتاريخ واللغة والعادات تجمعهم وتشكل منهم ما كانوا وما هم الآن. وخلال تواجدى هناك مررت أكثر من مرة بتمثال ويليام سارويان فى قلب العاصمة الأرمينية لأتذكر معه ما قاله هذا الكاتب الأرمنى الأمريكى:«هيا.. حاول تدمير أرمينيا ولنر أن استطعت أن تفعل ذلك. قم بتشريدهم فى الصحراء واتركهم بدون الخبز أو الماء. قم بحرق بيوتهم وكنائسهم وانظر إذا لم يقوموا بعد ذلك بإطلاق الضحكات ودندنة الأغانى وتمتمة الصلوات من جديد. وإذا التقى اثنان منهم فى أى مكان فى العالم انظر لكى ترى كيف ستتواجد أرمينيا جديدة».
وأذكر هنا كيف أن عشاق الآداب فى مصر (ومنهم الأستاذ علاء الديب) وقفوا طويلا أمام هذا الكاتب.لأنهم وجدوا فى سارويان من ولد وعاش ومات فى أمريكا الأرمنى الشرقى المتدفق فى كلامه والمندفع فى احتضانه لمن حوله وأيضًا المنغمس بتلقائية وصدق فى تفاصيل البشر وأحلامهم البسيطة. إنها الرحرحة فى الكلام والونس فى القعدة والحميمية فى التواصل الإنسانى.
وبالمثل عشاق الموسيقى فى مصر التفتوا كثيرا إلى موسيقى «آرام خاتشادوريان» الأرمنى العالمى صاحب «سبارتاكوس».. و«رقصة السيوف». ولم يكن «سارويان» أو «خاتشادوريان» ممن ولدا بـأرض مصر أو عاشا بين أهلها إلا أنهما كانا الكلمة والنغمة التى لمست بأوتار قلوب المصريين المتواصلين مع الإبداع الإنسانى العالمى. هكذا كان الأمر أيضا مع «شارل أزنافور» المغنى الفرنسى العالمى الأرمنى الأصل والهوى وأغانيه الجميلة. بالمناسبة لخاتشادوريان متحف باسمه فى يريفان يضم مكونات حياته وملامح إبداعه وأيضا صورًا لزياراته العديدة لدول العالم ومنها لمصر ولقائه مع الزعيم جمال عبد الناصر. ونجد فى هذا المتحف وسام الجمهورية الذى تسلمه الفنان الأرمنى من الرئيس المصرى.
وإذا كنت أتحدث عن محطات التلاقى والتواصل أذكر أنه فى عام 2015 نشرت دار أنديريس فى أرمينيا الترجمة الأرمينية لرواية رادوبيس للكاتب الكبير نجيب محفوظ. وذلك فى إطار نشرها بالأرمينية ترجمة أعمال كتاب نوبل. رادوبيس لاقت اهتمامًا كبيرًا لدى قراء الآداب وأثارت اهتمام الدوائر الأدبية لمسته فى حواراتى مع بعض الأصدقاء هناك. إلا أنه يبقى السؤال الأهم ماذا بعد رادوبيس وماذا عن أعمال أخرى لنجيب محفوظ ولكتاب مصريين آخرين من أجيال عديدة. خاصة أن من يدرسون العربية ويجيدون التحدث والكتابة بها فى تزايد مستمر. وفى المقابل هناك حاجة ماسة للتعرف على الأدب الأرمنى بنماذجه المختلفة وترجمة نماذج منها. مثل هذه الأمور حضرت دردشات حولها وحول إمكانية تحقيقها. وخلال الزيارة الأخيرة تكرر الحديث المعتاد عن تواصل فنى وثقافى أكثر وأعمق بين أرمينيا ومصر. ولا شك أن التشوق لهذا التواصل ينتظر حاليا أسبوعًا فنيًا مصرًيا يقام فى أرمينيا منتصف هذا الشهر أكتوبر 2019.
نبتدى منين الحكاية..
فى مقهى بشارع أبوفيان الشهير أسمع من المعمارى أرمين ميناسيان أحد كبار خبراء التخطيط العمرانى ما يسعى إليه هو وزملاؤه من الحفاظ على الذاكرة المعمارية لأرمينيا - سواء فى العاصمة أو خارجها. ولأنه يعرف اهتمامى المتواصل بالذاكرة الفنية والأدبية للمدن (منها القاهرة بالطبع ) نسير معا فى شوارع قلب يريفان التى تحمل عبق الإبداع على مر العقود. ثم يحدثنى كيف أن ابنه الذى يعمل فى المجال نفسه منشغل الآن فى مشروع خاص بترميم متحف ومزار لبيت الرسام الأرمنى الكبير ميناس أفيديسيان. البيت مكان مولده بقرية جرجور على بعد 145 كم من العاصمة.
والعاصمة يريفان التى احتفلت بعيد ميلادها أو تأسيسها الـ2800 العام الماضى تحتفل وتحتفى هذا العام مع باقى مدن وقرى أرمينيا بمرور 150 عاما على ميلاد كل من الموسيقى العظيم جوميداس والكاتب الكبير هوفهانيس تومانيان.
جوميداس (كان أبا كاهنا بالكنيسة الأرمنية) كرس حياته للموسيقى والغناء الأرمنى. ولعل أعظم ما قام به هو تدوين وتجميع موسيقى وكلمات الأغانى الشعبية الأرمنية أينما كانت وبالتالى حماها من الاندثار والنسيان آفة شعوب كثيرة. تفاصيل حياته الفنية مثيرة للاهتمام خاصة أنه سافر إلى دول أوروبية عديدة للأداء الموسيقى والغنائى بواسطة فرق كونها وقادها بنفسه. ومن هذه الدول ألمانيا تحديدا كان فيها دارسًا ومحاضرًا للموسيقى وجاء إلى مصر أيضًا فى بداية القرن العشرين. ويذكر أن أرغنا عزف عليه جوميداس متواجد فى مدرسة نوباريان بمصر الجديدة. وفى متحف خاص به فى يريفان تجد صورًا له تم تصويرها فى القاهرة. وأيضا صورة من قائمة طعام مكتوبة باللغة الأرمنية من صاحب مطعم أرمنى بشاطبى الإسكندرية زاره جوميداس وتناول الطعام هناك.
أما الكاتب هوفهانيس تومانيان فهو الكاتب غزير الإنتاج ومتنوع الإبداع. كتب حواديت وأشعار وأوبرا «أنوش» ومارس أغلب أنواع الكتابة. كما أنه اخترع ألعابا لغوية وأدبية للأطفال. تومانيان ببساطة سرده وسلاسة كتابته استطاع أن يخلب العقول ويأسر النفوس.وسكن إلى الأبد فى ذاكرة الأرمن بحكايات خالدة انتقلت من جيل إلى جيل وستظل هكذا حية ومستمرة فى التكوين الفكرى للأرمنى والأرمنية. تومانيان بحياته نفسها حدوتة. عاش فى تبليسى وعدد أبنائه وبناته عشرة. أقام فى حياته فى عشرة بيوت مختلفة وتوفى فى الـ٥٤ من عمره. وطالما نتحدث عن الحدوتة أو الحكاية ومعلمها الأكبر فى الأدب الأرمني الحكاية.. (وتسمى فى الأرمنية هيكيات) عادة فى التراث الأرمنى تنتهى بأن يقول الراوى بأن ثلاث تفاحات وقعت من السماء. التفاحة الأولى لمن يحكى الحكاية والثانية لمن يسمعها وأما الثالثة لمن يمر بهما وينصت إلى تلك الحكاية.
فى زيارتى ليريفان أتأمل من جديد الأقنعة المصرية التى رسمها الرسام الفنان الأرمنى مارديروس ساريان. وساريان زار مصر عام 1911. كما أتابع خطوات رهين المحبسين الشاعر أبو العلاء المعرى الذى ألهم كاتبا أرمنيا اسمه أفيديس ايساهاجيان ليكتب عنه قصيدة طويلة نشرت عام 1910. وهى محطات سوف أقف عندها فى حواديت قادمة بإذن الله.
ولا شك أن مثل هذه الزيارات واللقاءات بأرمينيا وتكرارها مع أصدقاء قدامى وجدد فرصة ليس فقط لتبادل التحيات أو شرب الأنخاب (كما هو العادة فى أرمينيا) أو الحديث عن ذاكرة جمعتنا وتجمعنا كأرمن بل أعتبرها لحظات لا تعوض لمشاطرة الأحلام.. خاصة أن الحديث عن الحلم يأخذنا إلى المستقبل والى احتمال لقاء آخر مع من كان غريبًا وصار صديقًا وأن نسعى معا لتحويل حلمنا إلى واقع جديد وأرضية مشتركة تنطلق منها أحلام جديدة لنا.