السبت 4 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

النكتة إبداع شعبى جماعى

النكتة إبداع شعبى جماعى
النكتة إبداع شعبى جماعى


«طائر أخضر جميل.. يسكن القلب.. ينعش الشفاه.. ينشط أيامنا الرتيبة المتشابهة كأوراق الشجر.. ويدغدغ صدورنا الحزينة، فتهتز طربًا وكأنها صالة ديسكو.. لكنه.. طائر غريب الأطوار.. ينقلب فجأة إلى صقر جارح.. شرس.. لا يفهم أصول البروتوكول.. ولا آداب الحديث.. يطير من حلوقنا إلى القمم العالية لينقر الأصابع والجفون.. ومقاعد السُّلطة وفراشها وثيابها الداخلية وما تحتها ولينقر أعمدة الحُكم والكبت.. هذا الطائر الأسطورى هو النكتة..بالتحديد النكتة السياسية التى نتداولها همسًا ونتعاطاها سِرّا وتهرب كالبرق وتنتشر أسرع من الصوت..»

باختصار يعيش طائر النكتة فى كل مكان..! كما يقول الأستاذ عادل حمودة فى كتابه« النكتة السياسية»..ويعتبر كل ما يُسبب الضحك فكاهة، والفكاهة تشمل السخرية والتهكم والنادرة والدعابة والكاريكاتور.. والفكاهة محاولة لتحويل الألم والكبت إلى نوع من التعبير يخفف وطأة البؤس وتظهر فى شكل نكتة أو قصة ساخرة.. والنكتة تركيبة لغوية معقدة، تهدف من خلال معنى مزدوج لإدراك العبث والمُحال أو التناقضات مما يثير الدهشة والضحك..
والنكتة السريعة من مميزات المصريين.. ربما أحدثت لديه ترضية ذاتية فكانت تعويضًا عمّا أصاب الشعب من كبت سياسى واجتماعى وتنفيس من الضائقات.. والنكتة المصرية وراءها بديهة حاضرة وذكاء لماح وقدرة على اصطناع التورية فى براعة وسرعة ولباقة..
ويقول د. شاكر عبدالحميد- وزير الثقافة الأسبق، وله كتابان فى هذا الصدد  «الفكاهة والضحك»، و«الفكاهة وآليات النقد الاجتماعي»: «إن الفكاهة من الجوانب المميزة للسلوك الإنسانى.. ويعبر عن ذلك فسيولوجيّا بالضحك.. والفكاهة رسالة اجتماعية بهدف إنتاج الابتسام والضحك.. وقد اهتم بهذه القضية فلاسفة بارزون مثل أفلاطون وأرسطو وكانط وشوبنهور وبرجسون.. وأدباء مثل الجاحظ وبودلير وجورج إليوت، وعلماء نفس مثل فرويد وغيره.. والضحك موضوع جدير بالدراسة البينية؛ لأنه ظاهرة تتقاطع فى دراستها حقول معرفية عديدة.. علم الاجتماع والنفس والتاريخ وعلم وظائف الأعضاء والفنون..».
ويقول العقاد فى كتابه «جحا الضاحك المضحك»  إن الضحك ضحوك عدة، فهناك ضحك السرور والفرح وضحك السخرية والمزاح وضحك العجب والإعجاب وضحك العطف والمودة وضحك المفاجأة وضحك الاستهزاء وغيرها..
والمَثل العربى يقول إن «شر البلية ما يُضحك».. ربما لأن العنصر السائد المهيمن على الضحك هو التناقض أو المفارقة وعنصر المفاجأة أو المصادفة.  ويقولون ضحكت الأرض إذا أخرجت نباتها وزهرها.. وفى اللغة مراتب للضحك كما جاء فى كتاب «فقه اللغة وسر العربية».. التبسم فيها المرتبة الأولى ثم الإهلاس ثم الافترار وهو أحسن الضحك، ثم الكتكتة ثم القهقهة ثم الكركرة ثم الاستغراب ثم الطخطخة ثم الزهزقة، وهى أن يذهب الضحك بك كل مذهب..
ويقول د. شاكر :«إن علماء الاجتماع أعدوا الفكاهة ذات دور فى تنفيس الطاقات المكبوتة وتخفيف وطأة القيود الاجتماعية.. كما يُعد الابتسام والضحك سلوكًا اجتماعيّا يرتبط بالتفاعل مع الآخرين ووجودهم معًا مما يرسخ انتماءهم للمجتمع.. ويتعامل الضحك مع مدى واسع من الظواهر الاجتماعية ربما بشكل يفوق اللغة اللفظية؛ لأن الضحك كظاهرة سابقة على اللغة ومستقلة عنها..».
 النكتة..
يضيف د. شاكر :«إن النكتة ظاهرة تنتمى إلى مجال التفاعل بين الفرد والمجتمع أو حتى بين الجماعات وبعضها البعض.. وتقوم على آليات شبيهة بالتهكم لكنه تهكم يحدث من خلال حكاية سردية موجزة ورمزية..».
بينما يُعرّف شوبنهاور النكتة بأنها محاولة لإثارة الضحك على نحو قصدى.. ويراها فرويد آلية نفسية دفاعية تقوم فى مواجهة العالم الخارجى المهدد للذات والقدرة على اكتشاف التشابه الخفى بين الأشياء غير المتشابه.. ويرى بوعلى ياسين أنها شكل لفظى شفهى مختصر يجرى سرده خلال تفاعل اجتماعى مرح.. أو جملة لطيفة تؤثر فى انبساط النفس.. وفرّق أنيس فريحة بين النكتة والفكاهة قائلًا: إن النكتة شديدة عنيفة تصدر عن عمد وتكون سريعة، حادة ومفاجئة.. فن فيه صناعة وخُلق وذكاء حاد.. أمّا الفكاهة فتأتى فى عفوية سمحة وبسيطة تسير ببطء ومحبة وغير قصد.. ورُغم تعدد الآراء؛ فإنها تكاد تجمع على ما أشار إليه شكسبير فى مسرحيته «الحب الضائع»: «إن نجاح الدعابة تحققه أذن المستمع وليس لسان المداعب»!فهى عملية تشترط المشاركة الإنسانية.. لذا تتصف بالصفة الاجتماعية.. وتؤدى أهدافًا اجتماعية لعل أبرزها كما أوضح د. شاكر:و الفكاهة يمكنها تحقيق التواصل والتفاعل الاجتماعى على نحو مستمر. وتعزيز التماسك الاجتماعي؛ خصوصًا فى أوقات الأزمات والتهديد. كما تحدد بعض أنماط السلوك الاجتماعى المقبولة وغير المقبولة خلال تداولها. وتنقل بعض المعلومات بصورة مستترة ضاحكة. وتؤدى وظيفة النقد الاجتماعى.. تخفف كذلك من وطأة بعض القيود الاجتماعية؛ خصوصًا المرتبطة بالنواحى الغريزية.. ومقاومة الإحباط والقلق من خلال الوجود الضاحك معًا.. والتنفيس عن مشاعر اليأس من بعض الظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية..
لهذا للنكتة قوة التخفيف من التهديد الحقيقى والمتخيل الذى يشعر به الفرد أو المجموعة.. محاولة للمقاومة والوجود معًا بشكل ممتع ومبهج.. ربما وسيلة للنقد البنّاء والتقويم غير المباشر للسلوكيات والأوضاع الخاطئة..
والنكتة قد تكون مدفوعة بغرائز مثل العدوان أو الجنس، أو دوافع أخرى مثل المغامرة العقلية والإبداع والخيال.. الرغبة فى التجديد.. والخروج من المَلل والنمطية واكتشاف روح المفارقة والتناقض فى البشر والحياة..
.. ورغم بدء دراسة الفكاهة مبكرًا فى الفلسفة وعلم النفس وتطوّر دراستها بعد ذلك؛ فإن الجانب الأكثر غموضًا فى هذا الشأن هو مبدعو النكات.. فربما هى إبداع شعبى جماعى يشترك فيه عدد من الأفراد..
 النكتة السياسية
ويقول عادل حمودة فى كتابه «النكتة السياسية»: «قد تأتى النكتة من أعلى لتصفية حسابات وصراعات فى كواليس الحُكم وعندما تصل إلى أسفل يضحك الناس».. ومن تفسيراته الأخرى أن المنتج الأساسى للنكتة هو الحكومات وأجهزة الأمن بهدف امتصاص إحباط الناس وقياس تقبلهم لاتجاهات وأفكار معينة.. أو الأفراد الذين يؤلفونها بحُكم عملهم «المنولوجيست» ..
 ويشير «حمودة» لقول برجسون فى كتابه «الضحك»، إلى أن النكتة شيء حى مَهما كانت خفيفة، فالأشياء الخفيفة تصنع الحياة، ونحن نحترم الحياة وتوضح النكتة مدى كفاءة شعب ما على التخيل الجماعى  العام.. ولا أحد يتذوق النكتة وحيدًا، فالضحك يحتاج إلى صدى..!.
وفى النكت السياسية كتاب آخر للكاتب طايع الديب..وهو بعنوان « جمهورية الضحك الأولي».. ربما هو الأحدث فى كل ما قد كُتب عن التنكيت السياسي، فهو من إصدارات هذا العام.. وفيه دراسة لتاريخ النكت السياسية من «خلال ثلاثة عصور.. عبدالناصر والسادات ومبارك.. وربما كان الأستاذ «حمودة» رائدًا فى كتابته عن هذه القضية، فقد جاءت الإشارة كثيرًا لكتابه «فى جمهورية الضحك».. وربما كان سببًا لكثير من الدراسات للضحك والنكت مما استعرضناه أو لم يتسع المقال لذِكْره..
ويقول طايع الديب بعد تجربته فى دراسة النكت السياسية وكتابة الكتاب.. إن النكت فى مصر بمثابة صحيفة معارضة شعبية للحُكام.. معارضة خفية مستترة لكنها متداولة.. ربما ظهرت فى مصر القديمة وعصر ما قبل يوليو ٥٢.. ولكنها لاقت رواجًا فى أكثر الأوقات تضييقًا أو تقلص حريات الرأى.. وقد خفتت الآن وحل محلها الكوميكس أو النكات المصورة والمتداولة عبر مواقع التواصل الاجتماعى.. ولطالما كانت النكتة السياسية ذات رواج فى السهرات والمقاهى كنوع من الانتقام السياسى أو التنفيس ربما.. وهى نكتة ذكية نكتة غير متوقعة لأن المفارقة بها شديدة الدقة.. لذا تتميز برواج كبير وتنافسها النكت الجنسية..
 النكات القوية أو ذات التداول الواسع الحقيقى فى المجتمع لا يمكن توثيقها أو دراستها بشكل كامل.. فدراسات مراكز البحوث الاجتماعية والدراسات الاجتماعية وغيرها من الجهات المعنية بجمع ورصد مثل تلك الأمور للدراسة.. تؤكد استعانة الباحثين بـ 8 % فقط من النكت السياسية التى حصلوا عليها فى الثمانينيات.. لأسباب تتعلق بخوف الباحثين من المساءلة..!.
ويشير «طايع» إلى أن عبدالناصر تعامل مع النكت بجدية مُبالغ فيها.. فكان مُهتمّا شخصيّا بالاطلاع على جديدها كل يوم من خلال أكثر من جهة.. وأشار إلى ذلك فى خطابات وجلسات عدة.. كونها توهن من عزيمة المصريين واعتبرها أداة للنيل من النظام لحساب أعداء الثورة والرجعيين.. حتى إنه فى خطاب ما بعد النكسة مباشرة تحدّثَ عن خطورة النكت ما يقرب لساعة ونصف وقال إن الترويج لما يُضعف العزيمة و الروح المعنوية بمثابة الخيانة العظمى..فى حين أن السادات كان يحبها ويأتى بالمنولوجيست حمادة سلطان ليطلعه على جديدها.. حمادة سلطان الذى كان يشتريها من محترفى إبداعها فى المقاهى الشعبية. كان يشترى النكتة بخمسة جنيهات من مقهى بباب الخلق..
والمتنبى منذ أتى مصر رأى بها من المضحكات ولكنه ضِحْكٌ كالبكاء.. فيما عبر ابن خلدون عن ذلك قائلًا: «أهل مصر كأنهم فرغوا من الحساب»، أى تجاوزوا كل ما هو جاد!
 ربما نضحك على الشيء قبل أن نبكى منه.. ربما لا نعرف علامَ نضحك؟.. وربما اختصرنا الحكمة وخلاصات السنين فى ذلك الضحك والسلام.. كأن الضحك وجهٌ آخر للحياة..!
وإذا كان الإنسان البدائى يعرف قيمة الضحك بالفطرة.. فكانت هناك بعض القبائل فى كينيا تمارس الضحك يوميّا بطريقة جماعية بعد الغروب لعدة ساعات لغسل هموم النهار! فهل يمكننا نحن فعله لغسل همومنا كما يفعل أهل كينيا المحافظون على قلوبهم وأرواحهم من الهموم بالضحك..؟!