الثلاثاء 7 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

الجاسوس الشريف..

الجاسوس الشريف..
الجاسوس الشريف..


للقراءة مذاق ومتعة خاصة فهى ليست وسيلة تسلية وعلم فقط، ولكنها مفاتيح لأبواب الخبرة ودليل إرشادى لطرقات الحياة.. وأنا من هؤلاء الذين تستهويهم القراءة خاصة فيما يتعلق بالتجارب الذاتية والملفات المخابراتية والجاسوسية.. ولطالما تساءلت: كيف يبرر الجاسوس لنفسه خيانة الوطن وخيانة أهله أو حتى خيانة نفسه؟ هل الخيانة صفة مكتسبة يقع ضحيتها ضعيف النفس الذى ينهار تحت وطأة الظروف فيجد لنفسه آلاف المبررات؟ أم الخيانة جينات وراثية تجرى فى العروق والوجدان والفكر ولا ينتظر الشخص سوى الظروف المواتية التى تظهر حقيقته؟ هل الخيانة سببها تقصير فى التربية والدين؟ هل يوجد ما يسمى بمصل الوقاية من الخيانة؟

وقع تحت يدى كتاب يحمل اسم « فن التجسس» وكاتبه هو «هنرى أ. كرامبتون» وهو ملقب بالجاسوس الأسطورى لمدة 24 عامًا وقائد العمليات السرية فى «السى آى إيه» ومنسق وزارة الخارجية الأمريكية لشئون مكافحة الإرهاب.. كان من أهم أدوار هذا الرجل هو تجنيد العملاء من جنسيات مختلفة.. استوقفنى كثيرًا كيف يصيغ الكاتب جمله فى وصف هؤلاء الخونة .. ففى مواطن كثيرة من الكتاب يجمل الكاتب حقيقة العميل الخائن وكأنه مستمر فى تجنيد عملاء جدد رغم تقاعده من خلال كتابه ومن خلال سرد مواقف لا يمكن وصفها سوى بمواقف خسيسة، لكنه يضعها فى إطار لامع رافعًا شعار «الجاسوسية عمل شريف».. ففى إحدى الفقرات يقول: «أخبرته أن الحكومة الأمريكية تحتاج يائسة إلى فهم حكومته وإلى وضع سياسة تساعد فى يوم من الأيام على تحرير شعبه.. وسألته: أمتأكد أنت من أنك تريد القيام بالأمر»؟ فأجاب: بالتأكيد يجب علىّ ذلك.. لا يمكننى العيش على هذا النحو وأنا أساند حكومتى فيما تعامل شعبى بوحشية».. ثم يستطرد فى موضع آخر:.. «لم أر صديقى العميل أبدًا بعد ذلك.. ولم أعرف مصيره إلا بعد سنوات عدة، فقد عمل بشكل مفيد لل«سى آى إيه» على مدى سنين وساندته زوجته ووفر معلومات قيمة، ولم ينكشف أمره أبدًا وتقاعد ببساطة وهدوء ثريًا آمنًا.. فالجواسيس الشرفاء مثله هم الذين ساهموا فى كسب الحرب الباردة».. توقفت كثيرًا أمام تعبير الجواسيس الشرفاء ووجدتنى أضحك باندهاش.. فأنا أعرف يقينًا المحاربين الشرفاء أو المواطنين الشرفاء، لكنها المرة الأولى التى أسمع وأقرأ عن الجواسيس الشرفاء.. فأى شرف فى خيانة الوطن أيًا كانت الظروف؟ فالجاسوس يغتنى وحده وينعم بحياة آمنة فى دولة أخرى وحده، بينما ترك وطنه غارقًا فى الفوضى بسببه وبسبب أمثاله.. وتساءلت: هل هناك عقول ساذجة لهذا الحد لتصدق هذا الهراء أم أنها عقول حقيرة ووضيعة فقط تلك التى تبيع الأوطان لمآرب شخصية وتقف على المنابر تتنفس غدرًا وكذبًا وضلالاً.. وتذكرت أبى رحمة الله عليه عندما أجلسنى ذات يوم أمامه وكنت فى بداية حياتى العملية أعمل مع أجانب.. وقال لى: يا ابنتى ستجدين الكثيرين منهم مبتسمين بشوشين يعرضون صداقاتهم وخدماتهم بلا مقابل.. فلا تنخدعى ولا تقبلى، بل أريدك دوما أن تتساءلى: ماذا وراء هذه الابتسامة وما المغزى من وراء هذا السؤال؟.. فهؤلاء لا يعملون فى مؤسسات من أجل خدمة بلدك، بل من أجل خدمة بلدهم.. حتى وإن بدا لك السؤال ساذجًا مثل: كم استغرقت من الوقت للوصول إلى هنا؟ لا تعطى أبدا إجابة شافية.. الوقوع فى الفخ يا ابنتى سهل جدًا، لكن الخروج منه شبه مستحيل.. وأدركت أن للخيانة مصلاً للوقاية منها مبكرًا يكمن فى عقول أبوية واعية تحصن وتشرح وتتابع.. وتزرع فى الأبناء أغلى ما فى الوجود «الضمير».. فالعقل أحيانًا يقودنا إلى الطريق الخطأ أم الضمير فلا يفعل أبدًا.